رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. ناظم المسباح 16 يونيو، 2015 0 تعليق

تفسير آيات الصيام (2) التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية

 

تتقون: أي تحذرون وتصونون أنفسكم من عذاب الله بوقاء الطاعة

 

هذه الحلقات المختصرة تضمنت شرحاً موجزاً لآيات الصيام الواردة في القرآن الكريم، وما حوته من أحكام شرعية متعلقة بهذه العبادة العظيمة، وقد ذهبت في شرحها مذهب التفسير التحليلي، فجعلت أذكر الآية القرآنية كما هي في المصحف، ثم أنتقي الألفاظ الغريبة وأشرحها شرحا لغوياً أو أبين معناها الشرعي الخاص إن وجد، ثم إن كانت الآية نزلت لسبب معين فإني أذكره نقلاً، ثم أذكر معنى الآية إجمالاً على طريقة التفسير الإجمالي.

     ثم أنتقل إلى صلب الموضوع والهدف من هذا الشرح وهو الأحكام الفقهية في الآية؛ فأتناول بالشرح المفصل ما حوته الآية من هذه الأحكام وغيرها مما دل عليه ظاهرها، أو أشارت إليه، أو استنبطه العلماء منها، ثم أختم الشرح ببعض الفوائد المتعلقة بالآية إن وجدت ممّا لا صلة لها بالأحكام الفقهية كالفوائد الأصولية أو السلوكية وغيرها. وقد اعتمدت على التفاسير الفقهية والتحليلية في شرح الآيات كتفسير القرطبي وابن العربي والشوكاني وتفسير ابن عثيمين وغيرهم ممن أثبته في حواشي هذا الشرح، وعرضت على كثير من النوازل العصرية المتعلقة بالصيام مع بحثها والترجيح فيها متى ما لاح لي الحق واطمأنت إليه نفسي وسبقني إليه سلف من العلماء.

تفسير آيات الصيام

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  } (البقرة:183).

معاني المفردات:

- (كُتِبَ): أي فُرِضَ وأُوْجِبَ، مأخوذ من الكَتْب الذي هو ضَمُّ أديم إلى أديم بالخياطة، وفي العُرف يطلق على الحروف المضموم بعضها إلى بعض بالخط أو باللفظ، ويعبَّر عن الإثبات والتقدير والإيجاب والفَرْض والقضاء بالكتابة، ووجه ذلك أن الشيء يراد ثم يُقال ثم يُكْتَب.(1)

- (الصِّيَامُ): في اللغة الإمساك، وسيأتي تفصيل التعريف في شرح الآية. والفرق بين الصيام والصوم: أن الصيام هو الكف عن المفطرات مع النية، ويرشد إليه قوله تعالى: {كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم }. وأما الصوم: فهو الكف عن المفطرات، والكلام كما كان في الشرائع السابقة، وإليه يشير قوله تعالى مخاطبا مريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}(مريم:26). حيث رتب عدم التكلم على نذر الصوم.(2)

- (تتقون): أي تحذرون وتصونون أنفسكم من عذاب الله بوقاء الطاعة، وأصلها من (وَقَى) التي تدل على دفع شيء عن شيء بغيره.(3) قال ابن رجب رحمه الله: «وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه»(4).

 سبب نزول الآية:

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويصوم يوم عاشوراء، فأنزل الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى قوله: {طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا أجزأه ذلك)(5).

المعنى الإجمالي:

يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين، مخبراً لهم بأنه قد افترض عليهم عبادة الصيام كما فرضها على غيرهم من الأمم السابقة إشعاراً منه بوحدة الدين وأصوله ومقصده، وتأكيداً لأمر هذه الفريضة وترغيبا فيها، وأن من نعم الله على عباده أن شرع لهم ما يتقربون به إليه وينالوا به رضوانه وجنته، مبيناً الحكمة من وراء هذا التشريع وهو تحصيل التقوى؛ إذ إن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ فهو يكسر الشهوة التي هي مبدأ المعاصي.

مسائل وفوائد من الآية

الخطاب بـ{يا أيها الذين آمنوا}:

وردت هذه الآيات في صيغة الخطاب للمؤمنين حتى تتهيأ نفوسهم لهذا الأمر، ويضعوه موضع العناية والتقدير والاهتمام، وإشارة إلى أن ما يأتي بعد الخطاب هو من مقتضيات الإيمان، وقد روي عن ابن مسعود والحسن وغيرهما من السلف: «إذا سمعت الله -تعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}. فأرع لها سمعك، فإنها لأمر تؤمر به، أو نهي تُنهى عنه».(6)

تعريف الصوم:

الصيام لغة ً: يُطلق ويقصد به «مطلقُ الإمساك»؛ أي: التوقُّف عند كلِّ فعل أو قول، فالصائم إنما سمِّي كذلك لإمساكه عن شهوتَيِ البطن والفرج، والمسافر إذا توقَّف عن سيره سُمِّي صائمًا، والصامت عن الكلام صائم، ومنه قوله تعالى: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (مريم: 26)، وكذا الفرس إذا أمسكت عن العَلَف فهي صائمة، وإذا قامت في موقفها، فهي في مصامها، وصوم الماء ركودُه، وصوم الريح توقُّفُها، وصومُ الشمس استواؤها في كَبِد السماء قُبيل الزوال، عند انتصاف النهار(7) وقال الراغب: يقال للفرس الممسك عن السير أو العلف: صائم.

قال الشاعر:

خيلٌ صيامٌ وأخرى غير صائمةٍ

                                تحت العجاجِ وأخرى تَعلِكُ اللُّجُما(8)

     والصيام في الاصطلاح: كما قال الحافظ: هو إمساك مخصوص، في زمن مخصوص، عن شيء مخصوص، بشرائط مخصوصة(9)، وهذا التعريف هو الذي تواطأت عليه تعريفات الفقهاء وإن اختلفت عباراتهم فيه. ولا بد من إضافة قيد (التَّعَبُّد لله) بهذا العمل حتى نفرِّق بين ما هو عادة وما هو عبادة. يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «ويجب التفطن لإلحاق كلمة التعبد في التعريف؛ لأن كثيراً من الفقهاء لا يذكرونها بل يقولون: الإمساك عن المفطرات من كذا إلى كذا، وفي الصلاة يقولون هي: أقوال وأفعال معلومة، ولكن ينبغي أن نزيد كلمة التعبد، حتى لا تكون مجرد حركات، أو مجرد إمساك، بل تكون عبادة».(10)

مراحل تشريع الصيام:

     عبادة الصيام كغيرها من العبادات التي كانت مفروضة في شرائع أهل الكتاب من قبلنا كما دل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  } (البقرة:183). وقد كان الصوم بمعنى الإمساك عن الطعام والشراب معروفاً عند العرب في الجاهلية، فقد كانوا يصومون يوم عاشوراء كما جاء في الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي  صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة، وترك عاشوراء، فكان من شاء صامه ومن شاء لم يصمه» (11) ثم جاء الإسلام ليستقرَّ فيه تشريع الصيام على الوجه الأكمل، لكن بعد مراحل تدرج بها تشريع الصيام كما هو الحال في كثير من التشريعات في الإسلام؛ تيسيراً من الله على عباده كما قال سبحانه: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة (185). وهذه المراحل يمكن إجمالها فيما يلي:

المرحلة الأولى: تشريع صيام بعض أيام في السنة كصيام يوم عاشوراء، على حد بعض أقوال أهل العلم كالإمام أبي حنيفة وأحمد في رواية عنه اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية.

     ومن أدلتهم: حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة، وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه»(12)

قال ابن بطال: «دلّ حديث عائشة على أن صومه كان واجباً قبل أن يُفْرَض رمضان، ودل أيضاً أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضاً»(13).

وذهب الجمهور من المفسرين وغيرهم واختاره ابن جرير الطبري(14) إلى أنه لم يفرض على الأمة قبل رمضان صوم، قال ابن حجر: «ذهب الجمهور – وهو المشهور عند الشافعية – إلى أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان» (15).

المرحلة الثانية: التخيير في صيام عاشوراء، وكان ذلك بعد الأمر بصيام أيام معدودات، التي هي عِدَّة أيام شهر رمضان، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (البقرة: 183 – 184).

وقد صام النبيُّ -  صلى الله عليه وسلم - عاشوراء، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضانُ ترك(16)، وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه»(17).

المرحلة الثالثة: الترخيص بالإفطار في رمضان للقادر على الصيام، مع إيجاب الفدية عليه، فقد كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأدَّى الفدية؛ حيث إن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا قومًا لم يتعوَّدوا الصيام، وكان الصيام عليهم شديدًا.

قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 184).

المرحلة الرابعة: نسخُ هذا الترخيص عند القدرة على الصيام؛ وذلك بقوله تعالى:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة: 185)؛ فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } (البقرة: 184)، كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها(18)، فصار الأمر بهذه المرحلة أن كلَّ من شهد استهلال شهر الصوم أي دخوله من المسلمين، فقد وجب صيامه عليه، ولا رخصة له بالإفطار حال كونه قادرًا على الصيام، حتى لو أدَّى فديةً طعام مسكين.

المرحلة الخامسة: تخصيص الترخيص بالإفطار في رمضان في حالين؛ الأول: المرض في البدن الذي يشقُّ معه الصيام، أو يؤدي إلى تأخُّر بُرء المريض، أو يتسبب بزيادة مرضه، والثاني: حال السفر؛ بأن كان متلبِّسًا بالسفر وقت طلوع الفجر، فله في هذين الحالين أن يفطر، ثم يقضي بعد رمضان صيام أيامٍ، عددَ ما أفطره حالَ المرض أو السفر؛ قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر } (البقرة: 185).(19)

     ومع دخول الصيام مرحلة الإلزام ونسخ التخيير فيه للقادر على صيامه كان الصوم من عشاء اليوم الأول إلى مغرب اليوم الثاني، فكان الصحابة يصومون طيلة اليوم والليلة عدا ما بين المغرب والعشاء،وإن نام قبل أن يفطر أمسك بقية ليلة ويومه؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه : قال: «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبيصلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (البقرة: 187) ففرحوا بها فرحا شديدا، ونزلت: {ْوَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} (البقرة: 187)(20).

     وقد استقر التشريع - ولله الحمد - على ذلك الوجه الأكمل بعد أن تدرَّج بهم، مريدًا بهم اليسر، وإتمام عدة صيام الشهر المبارك، وذلك بصيامه كاملاً عند عدم العذر، وبتدارك ما فات منه بعذرٍ بالقضاء؛ قال تعالى: { َيُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185).

أما تاريخ تشريع فريضة الصوم، فقد كان ذلك في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة الشريفة، على الكيفية التي استقرَّ عليها، وقد صامه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين.(21)

حكم الصيام:

أما حكم الصيام فقد أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض. والدليل على الفرضية الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183) وقوله {كتب عليكم}: أي فرض.

وقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة:185).

     وأما السنة، فحديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)(22). كما انعقد الإجماع على فرضية صوم شهر رمضان، لا يجحدها إلا كافر (23).

صيام الأمم السابقة:

أشار قوله تعالى {كما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} إلى فرضية الصوم على الأمم من قبلنا، لكنه لم يشرح كيفيته ولا زمنه ولا مقداره، ولا من هي الأمم التي شرع فيها الصوم.

- فأما المراد بالأمم السابقة فقد قيل هم أهل الكتاب، وقيل هم النصارى فقط، وقيل هم جميع أهل الملل(24)، والذي يذكره بعض المفسرين أن الصوم كان من لدن آدم عليه السلام، وأن نوحا -عليه السلام- صام رمضان بعد أن هبط بالسفينة.

قال القرطبي -رحمه الله-: «قال أهل التاريخ: أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة.... وقال مجاهد: كتب الله -عز وجل- صوم شهر رمضان على كل أمة، ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم»(25).

والذي يظهر من كلام الإمام مجاهد -رحمه الله- واختاره القرطبي أن الصوم كان من لدن آدم عليه السلام، لكن يبقى القول بتحديد شهر رمضان، قول يفتقر إلى دليل وليس ثمة دليل يؤيد ذلك والله أعلم.

وأما كيفية الصيام فقد تنازع العلماء في دلالة كاف التشبيه من قوله تعالى: {كما كتب على الذين من قبلكم..}.

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: «وفي موضع التشبيه في كاف (كَمَا كُتِبَ) قولان:

- أحدهما: أن التشبيه في حكم الصوم وصفته لا في عدده، قال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام وهو عليهم ثابت، وقد أرخص لكم.

- والثاني: أن التشبيه في عدد الأيام، ثم في ذلك قولان:

- أحدهما: أنه فرض على هذه الأمة صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقد كان ذلك فرضاً على من قبلهم، قال عطية عن ابن عباس في قوله -تعالى- كما كتب على الذين من قبلكم قال: كان ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ برمضان..

- والثاني: أنه فرض على من قبلنا صوم رمضان بعينه، قال ابن عباس فقدم النصارى يوما ثم يوما وأخروا يوما، ثم قالوا: نقدم عشراً ونؤخر عشراً. انتهى.(26)

     وقد دلت نصوص من القرآن الكريم على نوع من أنواع الصوم عند الأمم السابقة وهو الصوم عن الكلام، في آية مريم عند قوله تعالى على لسان مريم: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}(مريم: 26) ومعنى صَوْما: أي صمتا، روى ابن جرير عن السدي قال: فَكَانَ مَنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يُمْسِيَ».(27)

الصيام فرض على الأمم السابقة

     وحكمة التذكير بأن الصيام قد فرض على الأمم السابقة هو تخفيف وقعه على النفوس؛ فالصائم يشعر بمشقة مَنْع نفسه عما اعتاده من اللذائذ والشهوات، والله -سبحانه وتعالى- يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به، وتستجيب له مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وتراض عليه، فيقرر لهم أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين وأن الغاية واحدة لجميع الشرائع.(28).

وقد لخص الإمام ابن عاشور -رحمه الله- أغراض هذا التذكير في ثلاثة أغراض:

- الغرض الأول: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها؛ لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها. وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم

- الغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهوينا على المكلفين بهذه العبادة حتى لا يستثقلوا هذا الصوم فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب.

- الغرض الثالث: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة.

الحكمة من الصيام:

     قوله تعالى: (لعلكم تتقون) جملة تعليلية جيء بها لبيان حكمة مشروعية الصيام فكأنه- سبحانه- يقول لعباده المؤمنين: فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله، وبذلك تكونون ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الصوم جنة» أي وقاية من الوقوع في المعاصي، ووقاية من عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأمراض الناشئة عن الإفراط في تناول بعض الأطعمة والأشربة.(29)

قال ابن عثيمين رحمه الله: ومن فوائد هذه الآية أنه ينبغي سلوك الأسباب الموصلة إليها؛ لأن الله أوجب الصيام لهذه الغاية؛ إذاً هذه الغاية غاية عظيمة؛ ويدل على عظمها أنها وصية الله للأولين، والآخرين؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ  } (النساء: 131).

ويتفرع على هذه الفائدة اعتبار الذرائع؛ يعني ما كان ذريعة إلى الشيء فإن له حكم ذلك الشيء؛ فلما كانت التقوى واجبة كانت وسائلها واجبة....(30).

الهوامش:

1- التوقيف على مهمات التعاريف ص279.

2- معجم الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ص325.

3- معجم مقاييس اللغة 6/131.

4- جامع العلوم والحكم ص398.

5- رواه أبو داود برقم (507) وصححه الألباني، وهو جزء من حديث طويل. وانظر تفسير الطبري 3/420 بتحقيق أحمد شاكر.

6- انظر تفسير ابن كثير 1/200. ونقله ابن المبارك في الزهد والرقائق 1/12.

7- انظر (لسان العرب)، لابن منظور (4/2592)، و(القاموس المحيط)، للفيروز آبادي: ص: 1460).

8- مفردات ألفاظ القرآن/ 500.

9- فتح الباري 5/1.

10- الشرح الممتع (6/310).

11- رواه البخاري (4504).

12- رواه البخاري في كتاب التفسير، باب {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام.. } (4502)، ومسلم في كتاب الصيام، باب صوم عاشوراء (1125).

13- شرح ابن بطال على البخاري (4/141).

14- جامع البيان (3/417).

15- فتح الباري (4/103)، وانظر: المجموع (6/433 – 435) للنووي.

16- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان، برقم: (1892)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما.

17- متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم؛ باب: وجوب صوم رمضان، برقم (1892)، ومسلم - بلفظه - كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (1126).

18- متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم، باب: وجوب صوم رمضان، برقم (1892)، ومسلم - بلفظه -؛ كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (1126).

19 ملخصا من كتاب (الصوم جنة) د. خالد بن عبد الرحمن بن علي الجريسي ص17فما بعدها.

20- صحيح البخاري كتاب الصوم باب قول الله تعالى:(أحل لكم ليلة الصيام..)، برقم (1915)

21- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان، برقم: (1892)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما.

22- رواه البخاري كتاب الإيمان باب قول النبيصلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس...)رقم (8)، ومسلم في الإيمان باب أركان الإسلام ودعائمه العظام رقم (16).

23- الموسوعة الفقهية الكويتية 28/8.

24- زاد المسير 1/140.

25- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/290.

26- زاد المسير ج1 ص184: 185(بتصرف).

27- تفسير الطبري 15/520.

28- في ظلال القرآن لسيد قطب 1/168.

29- التفسير الوسيط لمحمد سيد طنطاوي 1/381.

30- تفسير العثيمين 2/318.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك