رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 5 مايو، 2025 0 تعليق

الوقف الإسلامي وصنائعه الحضارية – الوقف الإسلامي ومجانية التعليم

  • بلغت مدارس بيت المقدس بين القرنين الخامس عشر والثاني عشر الهجريَّيْن نحو سبعين مدرسة لا زالت آثارُ كثيرٍ منها ماثلةً إلى اليوم حول المسجد الأقصى
  • من أهمّ آثار الأوقاف في التعليم هو التفرّغ التامّ الذي توفّر للعلماء نتيجةً لضمان أرزاقهم من غلّات الأوقاف وما يلحق ذلك من صفاء الذهن والاستقلاليّة الماليّة
  • عامّة النّاس من المسلمين كان لهم دورٌ بارزٌ في وقف المدارس والوقف عليها كما تحفظ لنا كتب التاريخ

أسهمت كثرة الأوقاف في تحقيق مجانية التعليم، على النواحي التعليمية من: مدارس وكتاتيب وحلقات العلم، في المساجد في عصور الازدهار المادي للحضارة الإسلامية؛ حيث حرص واقفو المدارس ودور التعليم المختلفة -في كثير من العواصم الإسلامية- على توفير احتياجات الطلبة الدارسين فيها ومدرسيهم كافة، ولا سيما المسكن الملائم لهم؛ لتوفير المناخ المناسب للعلم والتعلم.

       إنّ المتتبّع لتاريخ أمصار الإسلام -منذ القرون الإسلاميّة المبكّرة- يجد -وبلا مبالغة ولا تهويلٍ- أنّ المؤسّسات التعليميّة التقليديّة وهي المدارس الشرعيّة والكتاتيب، كانت تقومُ حقًّا مقام الكليّات والجامعات والمعاهد في وقتنا الحاضر، بما في الكلمة من معنى، ولا تنقصُ عنها شيئًا، بل قد تزيدُ! ولعلّ من أهمّ آثار الأوقاف في هذا الجانب بحقّ، هو التفرّغ التامّ الذي توفّر للعلماء، نتيجةً لضمان أرزاقهم من غلّات الأوقاف، وما يلحق ذلك من صفاء الذهن، والاستقلاليّة الماليّة التي تستتبعُ الاستقلاليّة الفكريّة بلا أدنى شكّ؛ بحيثُ كان المخدومُ بكلّ هذا العطاء هو دينُ الله حقًّا وصدقاً، بعيداً عن أيّة أغراضٍ أو مآرب أو شوائب، ومن أبرز المدارس الوقفية ما يلي:

المدرسة الحلّاويّة (الحَلَويّة) بحلب

أنشأها الملك العادل نور الدين زنكي عليه -برّد الله مضجعه- عام 543هـ في حلب، ولا يبدو أنّ ثمّة مدرسة اشتُقَّ اسمُها من بعض لطائفِ عطائِها كما هو الحال مع هذه المدرسة. «وقد شَرَطَ الواقف أن يُحمل للمدرسة في كلِّ رمضان من وَقْفِها ثلاثة آلاف درهمٍ يُصنع بها للفقهاء طعامٌ، وفي ليلة النصف من شعبان يُصنع حلواء معلومة، وفي الشتاء ثمن بياض، لكلِّ فقيه شيء معلوم، وفي أيّام شرب الدّواء من فصلي الربيع والخريف ثمن ما يُحتاج إليه من الدّواء والفاكهة، وفي المواليد أيضاً الحُلْو، وفي الأعياد ما ينفقونه دراهم معلومة، وفي أيام الفاكهة ما يشترون به بطيخاً ومشمشاً وتوتاً».

المدرسة المستنصريّة ببغداد

       بناها الخليفة المستنصر بالله، الذي ولي الخلافة العبّاسيّة عام 623هـ، قال فيه ابن تغري بردي: «باني المدرسة المستنصرية ببغداد، التي لم يُبْنَ في الإسلام مثلُها في كثرة أوقافِها وكثرة ما جُعل فيها من الكتب»، وقد كانت المستنصريّة ببغداد، على شاطئ دجلة الشرقيّ، «وقد وَقَفَها على المذاهب الأربعة، وألحق بها مستشفىً وحمّامًا ودارَيْن؛ أحدهما للقرآن الكريم، والآخر للحديث الشريف». واعتنى الخليفة المستنصر بتوفير مكتبة شاملة كبيرة في هذه المدرسة، وأنفق أموالاً طائلة لجمع أكبر قدر من الكتب فيها، مما أدى إلى وقوع أزمة في سوق الكتاب في عصره عبَّر عنها ابن النجار بقوله: وبيعت كتب العلم في أيامه بأغلى الأثمان لرغبته فيها، ولوقفها.

المدرسة المحمودية بالقاهرة

        وأسس هذه المدرسة محمود الأستادار المتوفي سنة 799 هـ، ووقف عليها مجموعة كبيرة من الكتب يقول عنها المقريزي «لا يعرف بديار مصر ولا الشام مثلها، وبهذه الخزانة كتب الإسلام من كل فن»، وظلت هذه المدرسة باقية حتى عصر المقريزي، وقد أشار هو إلى ذلك؛ حيث قال: «وهي باقية إلى اليوم، وأورد السخاوي نصاً يوحي بأنها كانت تضم في العشر الثاني من القرن التاسع الهجري قرابة من أربعة آلاف مجلد».

مدرسة أعظم شاه في مكة المكرمة

        وهي من أوقاف سلطان البنجال أعظم شاه بن اسكندر شاه غياث الدين أبي المظفر وقد بدء في التدريس بها عام 814، ومن المؤكد أنها كانت تضم مكتبة حافلة، وكان موقعها عند باب أم هاني بجوار الحرم المكي الشريف، يبدو أنها هي ذاتها التي وقف عليها محمد سعيد الشرواني الداغستاني والي الحجاز المتوفي سنة 1291هـ كتبه، وكانت مجموعة نفيسة.

مدرسة الأرسوفي

وهي من مدارس مكّة المكرمة، وقفَها العفيف عبدالله بن محمد الأرسوفي سنة 591هـ، وغيرها كثير.

مدارس القدس والمسجد الأقصى

بلغت مدارس بيت المقدس بين القرنين الخامس عشر والثاني عشر الهجريَّيْن نحو سبعين مدرسة، لا زالت آثارُ كثيرٍ منها ماثلةً إلى اليوم، حول المسجد الأقصى، وداخله، منها:

المدرسة الباسطيّة:

        قال العليمي: «بعضُها على المدرسة الدويدارية، واقفُهَا القاضي زين الدّين عبدالباسط بن خليل الدمشقي، ناظر الجيوش المنصورة، وعزيز المملكة، وأوّل من اختطّ أساسَها وقَصَدَ عمارتها شيخ الإسلام شمس الدّين محمّد الهروي شيخ الصلاحيّة، وناظر الحَرَمَيْن، فأدركته المنيّة قبل عمارتها، فعمّرها عبدالباسط وَوَقَفَهَا». وقد أقام العلّامة ابن رجب الحنبلي مدة طويلة في المدرسة السكّريّة بدمشق، وهي واحدةٌ من بين ثلاثمائة وخمسين مدرسةً فيها آنذاك!

كُتّاب الضحّاك بن مزاحم

         وَلِيَ أولياء الأمور والمحسنون من المسلمين أمر إنشاء الكتاتيب والإنفاق عليها، وشارك في هذا الفضل المعلمون الذين كانوا يقومون بمهنة التدريس احتساباً، ولا سيما في العهد الأول للإسلام، ثم انتشرت الكتاتيب العامّة الموقوفة بعد ذلك عبر العصور حتى أصبح الكُتَّاب في بلاد ما وراء النهر يضم الأطفال اليتامى والفقراء والمساكين، حتى أصبح كتَّاب الضحاك بن مزاحم عام 105 هـ يحتوي على أكثر من ثلاثة آلاف طفل، كما أصبحت بالشام كتاتيب موقوفة لتعليم أبناء المسلمين.. ثم تلا بعد ذلك الكتاتيب في مصر». ومن الملاحظ أنّ عامّة النّاس من المسلمين كان لهم دورٌ بارزٌ في وقف هذه المدارس والوقف عليها كما تحفظ لنا كتب التاريخ، ولم يكن الأمر قاصراً على الأغنياء وذوي الملاءة الماليّة المستقرّة، بل شارك فيها فضلاء، وإن لم يكونوا من المشاهير.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك