
الضابط الثامن عشر – الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – ما جاز وقفه، جاز وقف جزءٍ مشاعٍ منه
باب الوقف من الأبواب المهمة التي من الأهميّة تقرير ضوابطه، ذلك أنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة، فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامّة، الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثمّ من القواعد الفقهيّة الكلّيّة، ثم يترجم كلّ ذلك على هيئة ضوابط خاصّة بباب الوقف، وهو ما سنتناوله في هذه السلسلة المباركة -إن شاء الله-، واليوم نستكمل الحديث عن الضوابط المتعلّقة بالعين الموقوفة، ومع ضابط (ما جاز وقفه جاز وقف جزء مشاع منه).
معنى الضابط
ما كان ملكاً شائعاً بين شريكَيْن أو أكثر مما يصحّ وقفُه من الأموال، دون أن يُفرز نصيبُ كلِّ شريكٍ عن نصيب الآخرين، فإنّه يصحُّ أن يقف أحدُهُم نصيبَه وحدَه من هذا الملك، ولو لم يكن معروفاً على التعيين، بل يقفه وهو ما يزال على حكم الشيوع.
صورة المسألة
- الأوّل: ما كان قابلاً للقسمة، كالعقار من أرضٍ أو دار.
- الثاني: ما لا يقبل القسمة، كالسيّارة، والحيوان، والحمّام.
صحّة وقف المشاع
وقد اختلف أهل العلم في صحّة وقف المشاع على أقوال:
- الأوّل: صحيحٌ مطلقاً، وإليه ذهب الشافعيّة والحنابلة، وأبو يوسف، وهو المعتمد، وكذا ابن الماجشون وابن حبيب من المالكيّة.
- الثاني: التفصيل فيما يقبل القسمة من الأموال، وما لا يقبلها، وهذا هو المعتمد عند المالكيّة، فإذا كان يقبل القسمة صحّ، وإلّا لم يصحّ، وسيأتي بيان صورة ذلك -إن شاء الله.
- الثالث: عكس الثاني، فإنْ وقف ما لا يقبل القسمةَ صحّ، وإن كان يقبلها فلا يصحّ.
وهذا هو قول محمّد بن الحسن، وهو في حقيقته مفرّعٌ على كون الوقْف عنده لا يتمّ إلّا بالقبض أو التسليم أو الحيازة، إذ كيف يُقبَض مع الشيوع؟! على الرغم من أنّ إمكان القسمة يحتّم عليه أن يقسم ويسلِّم، ولذلك ذكر بعضُهم في شرحه لهذا القول بأنّ المنع من صحّة الوقف مع الشيوع يُذكَر للتأكيد والتوضيح، وإلّا فهو مفهومٌ من اشتراط القبض بداهةً، إلّا أنّهم استثنَوا المسجد، فإنّ وقْفَه لا يصحّ مع الشيوع بتاتاً.
قال سراج الدّين ابن نُجيم: «(ويُفْرَزُ)، فلا يجوزُ وقف المشاع، وهذا الشّرط -وإنْ كان مفرَّعاً على اشتراطِ القبضِ، لأنّ القسمة من تمامه، إلا أنّه نصَّ عليه إيضاحاً، وأبو يوسف لمّا لم يشترط التسليمَ أجازَ وقف المشاع، والخلافُ فيما يقبل القسمة، أمّا ما لا يقبلها كالحمّام والبئر والرَّحَى فيجوز اتفاقاً، إلا في المسجد والمقبرة، لأنّ بقاءَ الشّركة يمنع الخُلوصَ لله».
مذهب الحنفيّة
وقال الكاساني موضِّحاً هذه النّقطة أيضاً في مذهب الحنفيّة: «ومنها: أن يكون الموقوف مقسوماً عند محمد، فلا يجوز وقف المشاع، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط، ويجوز مقسوماً كان أو مشاعًا، لأنّ التسليم شرطُ الجواز عند محمد، والشيوع يخلُّ بالقبض والتسليم، وعند أبي يوسف: التسليم ليس بشرط أصلاً، فلا يكون الخلل فيه مانعاً، وقد رُوي عن سيّدنا عمر - رضي الله عنه - أنّه مَلَكَ مائةَ سهمٍ بخيبر، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: احبِس أصلَها، فدلّ على أنّ الشيوع لا يمنعُ صحّة الوقْف.
وجوابُ محمد -رحمه الله-: يُحتمل أنّه وقف مائةَ سهمٍ قبل القسمة، ويحتمل أنّه بعدها، فلا يكون حجّةً مع الشكّ والاحتمال، على أنّه إنْ ثبتَ أنّ الوقفَ كان قبل القسمة، فيُحمل أنّه وقَفَهَا شائعاً ثمّ قَسَمَ وسَلَّمَ، وقد رُوي أنّه فعل ذلك، وذلك جائزٌ، كما لو وهبَ مشاعاً ثمّ قَسَمَ وسَلَّم»، على أنّه ينبغي التنبيه على أنّ محمّد بن الحسن قد اعتبر الشيوع ضارًّا بصحّة الوقْف، إذا كان الشيوع عند القبض والتسليم، لا عند إنشاء الوقف.
قول ابن عابدين
قال ابن عابدين: «ولو بينهما أرضٌ وَقَفَاهَا ودَفَعَاها معًا إلى قيِّمٍ واحدٍ، جازَ اتّفاقًا؛، لأنّ المانع من الجواز عند محمد هو الشيوع وقت القبضِ لا وقت العقد، ولم يوجد هاهنا لوجودهما معًا منهما، وكذا لو وَقَفَ كلٌّ منهما نصيبَه على جهةٍ وسلَّماه معًا لقيِّم واحدٍ، لعدم الشيوع وقت القبض، وكذا لو اختلفا في وقفَيْهِمِا جهةً وقيِّمًا، واتّحد زمانُ تسليمِهِمَا مالَهُما، أو قال كلٌّ منهما لقيِّمِه: اقبِضْ نصيبي مع نصيب صاحبي، لأنّهما صارا كمُتَوَلٍّ واحدٍ، بخلاف ما لو وقف كلُّ واحدٍ وحدَه، وسلَّمَ لقيِّمِه وحدَه، فلا يصحُّ عند محمد لوجودِ الشيوع وقت العقد، وتمكُّنِه وقتَ القبض».
الراجح صحّة وقْف المشاع
والراجح والله أعلم هو صحّة وقْف المشاع، لما تحرّر سابقاً من أنّ القبض ليس شرطاً لصحّة الوقف.
قال الأستاذ العلّامة مصطفى الزرقاء: «...فلا يشترط عدم الشّيوع، سواءً فيما يحتمل القسمة أو لا يحتملها، ولا يُشترط التسليم إلى متولٍّ، وذلك بناءً على نظريّة الإسقاط التي هي رأي أبي يوسف الراجح المعمول به، وإنّما يُشترط التسليم وعدم الشيوع على رأي محمّد المبني على نظريّة التبرُّع».
وأمّا تفريق المالكيّة في المعتمد عندهم بين ما يقبل القسمة وما لا يقبل القسمة، فصحّحوا الوقف مع الشيوع في الأوّل دون الثاني، فقد استندوا فيه على جملةِ مآخذ، منها: أنّ شريك الوقف في مالٍ لا يقبل القسمة كالحمّام لا يتمكّن من بيع نصيبه، ولا يجد من يشاركه في إصلاح ما يفسُدُ من هذا المال، وهذا ضعيفٌ، فإنّ بيع الشريك لنصيبِه غير ممتنعٍ عادةً وليس ممنوعاً شرعاً، وكذا إنْ احتاج المال إلى إصلاحٍ، فإنّ ناظر الوقف يتولّى إصلاح ما ينبغي أن يتولّاه كما في عموم الأوقاف.
الاعتراض الثاني
وأمّا الاعتراض الثاني فقد حكاه النّوويُّ -رحمه الله- وأجاب عنه، قال: «وقد عارضَ وقفَ المشاع بعضُ الفقهاء، وأوضح ما احتجُّوا به أنَّ كلَّ جزءٍ من المشترَك محكومٌ عليه بالمملوكيّة للشريكَيْن، فيلزم مع وقْف أحد الشريكَيْن أنْ يُحكَم عليه بحكمين مختلفين متضادَّيْن، مثل صحّة البيع بالنّسبة إلى كونه مملوكاً، وعدم الصحّة بالنسبةِ إلى كونِه موقوفاً، فيتّصف كلُّ جزءٍ بالصحّة وعدمِها، وأُجيب عن هذا بأنّه نظيرُ العتق المُشاع كحديث الستّة الأَعْبُد كما صحّ هنا، وإذا صحّ من جهةِ الشّارع، بطَلَ هذا الاستدلال».
حديث الستّة
وحديث الستّة الأَعْبُد الذي أشار إليه النّوويُّ على أنّه الجواب المناسب لهذا الإيراد، هو ما رواه عمران بن حُصين - رضي الله عنه - من أنّ رجلاً أعتقَ ستَّةَ أَعْبُدٍ عندَ موتِه، ولم يكنْ له مالٌ غيرُهم، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له قولاً شديداً، ثمّ دعاهُم فجزَّأَهُم ثلاثةَ أجزاءٍ، فأقْرع بينهم، فأعتق اثنين، وأَرَقَّ أربعة؛ ووجه الاستدلال به أنّ عتقهم في مرض الموت يجري مجرى الوصيّة، وهي لا تمضي إلا في الثلث، وقد أمضاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الرغم من الشيوع، بأن أَعْمَلَ فيه القرعة، فدلّ على أنّ شيوع الملْك في الجميع لم يتناقض مع إمضاء العتق في البعض، فكذا الوقف، والله أعلم.
فائدة
جاء في حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - في شأن الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك، أنّه - رضي الله عنه - بعد أنْ بُشّر بتوبة الله عليه، قال للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنّ من توبتي أنْ أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال: «أمسِكْ عليك بعضَ مالك، فهو خيرٌ لك». قال: فإنّي أمسك سهمي الذي بخيبر، وبوّب عليه البخاري بقوله: «بابٌ: إذا تصدّق أو وَقَفَ بعضَ ماله أو بعضَ رقيقه أو دوابِّه فهو جائزٌ».
وقال الحافظ: «هذه الترجمةُ معقودةٌ لجواز وقف المنقول، والمخالِف فيه أبو حنيفة، ويؤخذ منها جواز وقف المشاع، والمخالف فيه محمد بن الحسن، لكن خصّ المنع بما يمكن قسمته، واحتجّ له الجُورِيُّ -بضمّ الجيم، وهو من الشافعيّة- بأنّ القسمة بيعٌ، وبيع الوقف لا يجوز، وتُعُقِّبَ بأنّ القسمة إفرازٌ، فلا محذور.ووجه كونِه يُؤخذ منه وقف المشاع ووقف المنقول، هو من قوله: «أو بعض رقيقه، أو دوابّه»، فإنّه يدخل فيه ما إذا وَقَفَ جزءًا من العبد أو الدابّة، أو وَقَفَ أحدَ عبدَيْه أو فرَسَيْه مثلاً، فيصحّ كلُّ ذلك عندَ من يُجيز وقف المنقول، ويُرجع إليه في التعيين».
التطبيقات
1- إذا وقفَ بعض أرضه على موتى المسلمين لتكون مقبرةً، ولم يكن النصيب الذي يملكه معلوماً، لم يصحّ الوقف.
2- إذا وقفَ بعض داره مسجداً، لم يصحّ الوقف كذلك.
3- إذا وقفَ أحدَ فرسَيْه في سبيل الله، أو إحدى سيارتَيْه لصالح إحدى الجمعيّات الخيريّة أو المؤسّسات، أو أحد بيتَيْه كذلك، فكلُّ ذلك صحيحٌ، ويُرجَع إليه في تعيين المقصود.
لاتوجد تعليقات