
السنن الإلهية (39) يَغْضَبُ الله.. إذا تفشت الفاحشة
- أعلم أن من أسماء الله الحسنى (الحليم)، وهو الذي يعجل العذاب على من يستحقه، بل يمهل، ويؤخر بحلمه -سبحانه-، وأعلم أيضا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: «لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه فهو عنده فوق عرشه: إن رحمتي غلبت غضبي» وفي رواية: «إن رحمتي سبقت غضبي»، ولكن قرأت في (الجواب الكافي) لابن القيم: «وقد جرت سنة الله -سبحانه- في خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله -سبحانه وتعالى- ويشتد غضبه» (1/114)! مما أدى إلى تساؤلات في ذهني، لماذا الزنا؟ ولماذا لم يقل إذا ظهر الشرك، الذي هو أكبر من الزنا، بل أكبر الكبائر. هكذا بدأ صاحبي حواره مع صديقنا أبي يوسف (أستاذ العقيدة في كلية الشريعة)، وكنا أربعة نفر. - سؤال جميل، وتساؤل مشروع، ابتداء قولك: إن الشرك أكبر الكبائر حق، وهو الذي يوجب غضب الله -عز وجل- على من يقع فيه، كما في قوله -عز وجل-: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل:106)، وكذلك من يتول يوم الزحف، كما قال -تعالى-: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الأنفال:16). وكذلك من يقتل مؤمنا متعمدا: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء:93). هذه الآيات ومثيلاتها، تبين عذاب هذه الأصناف في الآخرة، ولكن الشيخ ابن القيم عندما ذكر سنّة من سنن الله أراد أن تفشي الزنا يؤدي إلى ظهور غضب الله في الدنيا، ولذلك تمام الجملة التي ذكرتها هو: «ويشتد غضبه فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة، قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بإهلاكها»، هذا الذي أراده بيانه الشيخ أن هذه الفاحشة يظهر أثرها في الدنيا، ولذلك ورد في مسألة المتلاعنين (الزوج يتهم زوجته بالزنا)، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (النور:9)، وذلك في الدنيا قبل الآخرة! أعجبني إسهاب صاحبنا أستاذ العقيدة. تابع حديثه الماتع: - وكلمة (غضب) بتصريفاتها وردت أربعا وعشرين (24) مرة في كتاب الله، ومن غضب عليه الله -عز وجل- هلك، كما قال -سبحانه-: {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (طه:81)، وذلك في الآخرة وإن عاش عيشة الملوك في الدنيا، وأظهر غضبه على الأمم السابقة لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا فأهلكهم، كما حصل مع عاد وثمود وقوم ولوط وفرعون وهامان وقارون. وقد أخبر الله عنهم فقال: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} (الأعراف:71)، أي عذاب وغضب. قاطعني صاحبي: - آسف على المقاطعة (دكتور)، ولكن أليست السنن الإلهية ثابتة، ودائمة، ونافذة، لا تتبدل ولا تتحول؟! - نعم، وأظنك تريد أن تسأل أن هناك دولا ومجتمعات يتفشى فيها الزنا، ولم ينزل عليها غضب الله بالعذاب في الدنيا، أليس كذلك؟ - بلى، كأنك تقرأ أفكاري. - لا تنس بأن سنن الله لا تقاس بأيامنا وسنيننا، بل من أسباب غفلة الناس عن السنن الإلهية أنها قد تتأخر مئات السنين، كما قال -تعالى-: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج:47). سأله صاحبي: - ولماذا اختص الله -عز وجل- هذه الكبيرة دون غيرها بأنها تنزل غضبه؟! - أظن أنني بينت جزءا من ذلك ولكن دعني أقرأ لك شيئا مما ذكره ابن القيم جوابا على سؤالك! قال الامام ابن القيم: «ويكفي في قبح الزنا أن الله -سبحانه وتعالى مع كمال رحمته- شرع فيه أفحش القتلات وأصعبها وأفضحها، وأمر أن يشهد عباده المؤمنون تعذيب فاعله» «وقد جمع -سبحانه- بين الزنا والشرك في قوله: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (النور:3)، وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن أبيه قال: إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذنَ الله -عز وجل- بهلاكها؛ ذلك أن مفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين والله لا يحب الفساد. وخص -سبحانه- حد الزنا من بين الحدود بثلاث خصائص: أحدها: القتل فيه أشنع القتلات، الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه؛ بحيث تمنعهم من إقامة الحدّ عليهم؛ فإنّه -سبحانه- من رأفته ورحمته بهم شرع هذه العقوبة، فهو أرحم منكم ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره، وهذا وإن كان عاما في سائر الحدود، ولكن ذُكِرَ في حد الزنا خاصةً لشدّة الحاجة إلى ذكره. فإنّ الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر، وأيضًا فإنّ هذا ذنبٌ غالبُ ما يقع مع التراضي من الجانبين، ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما ينفّر النفوس منه، وفيها شهوة غالبة له، فتُصوّر ذلك لنفسها، فيقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد. الثالث: أنه -سبحانه- أمر أن يكون حدّهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون خلوةً؛ حيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحدّ وحكمة الزجر. وحد الزاني المحصن مشتق من عقوبة الله -سبحانه- لقوم لوط بالقذف بالحجارة، وذلك لاشتراك الزنا واللواط في الفحش، وفي كلّ منهما فساد يناقض حكمة الله في خلقه وأمره.
لاتوجد تعليقات