رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 27 أكتوبر، 2014 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن – قلما أدبر شيء فأقبل

من سنن الله تعالى الكونية التي يراها الإنسان في الدنيا، ويقرؤها في أخبار الناس السابقة والمعاصرة، أن من كان في نعمة من الله وفضل ثم لم يقم بشكرها، وسعى في تغييرها أو أنه أهملها ولم يرع حقها، فإنه غالبا يحرمها ولا تعود إليه إلا ما شاء الله.

قال ابن القيم: النعم ثلاثة:نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعر بها، فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرّفه نعمته الحاضرة، وأعطاه من شكره قيدا يقيّدها به حتى لا تشرد، فإنها تشرد بالمعصية, وتقيّد بالشكر، ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة, وبصّره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها، ووفقه لاجتنابها، وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه، وعرّفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها.

     ويحكى أن أعرابيا دخل على الرشيد, فقال: يا أمير المؤمنين ثبّت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرّفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها فأعجبه ذلك منه، وقال: ما أحسن تقسيمه».

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ».أخرجه مسلم وأبو داود

قال في عون المعبود: «من زوال نعمتك»: أي نعمة الإسلام والإيمان ومنحة الإحسان، «وتحول عافيتك»: بضم الواو المشددة أي انتقالها من السمع والبصر وسائر الأعضاء .

     فإن قلت: ما الفرق بين الزوال والتحول؟ قلت : الزوال يقال في شيء كان ثابتا في شيء ثم فارقه، والتحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره، فمعنى زوال النعمة ذهابها من غير بدل، وتحول العافية: إبدال الصحة بالمرض، والغنى بالفقر.

«وفجاءة نقمتك»: بضم الفاء والمد، بمعنى البغتة، والنقمة بكسر النون وبفتح مع سكون القاف: المكافأة بالعقوبة والانتقام بالغضب والعذاب، وخصها بالذكر؛ لأنها أشد .

(وجميع سخطك): أي ما يؤدي إليه أو جميع آثار غضبك.

     ويبين ابن الجوزي سبب تحول النعم فيقول: وإذا رأيت تكدراً في حالٍ من الأحوال، يعني: إذا رأيت تحول العافية أو تكدر الأحوال على الإنسان فإنه بسبب أمرين: إما نعمةً ما شكرت؛ أي: أعطاك الله نِعماً لكن ما شكرته وما أديت حق هذه النعم، أو ما صرفتها في طاعة الله، يقول الله جل وعلا:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(إبراهيم:7).

والأمر الثاني: وإما زلةً فعلت، يعني: اِقترفت معصية، فالله سبحانه و تعالى بدأ يغير من حالك، كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنفُسِهِمْ}(الرعد:11)؛ لأن المعاصي و الذنوب هي سبب كل بلاء و شقاء و نكد في الدنيا و الآخرة».

ولهذا جاء عن عمر وعلي رضي الله عنهما: «قلما أدبر شيء فأقبل».

      قال ابن القيم: ومن عقوبات الذنوب: أنها تزيل النعم ، وتحل النقم ، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب ، ولا حلت به نقمة إلا بذنب ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:   «ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا رفع إلا بتوبة».

وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى: 30).

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال: 53).

     ومن الأمثلة التي ضربها لنا القرآن في تحول النعم وتبدل الأحوال قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}(سبأ: 15 - 16).

     قال الطاهر: كان أولئك مثلا لسلب النعمة عن الكافرين، وفيهم موعظة للمشركين؛ إذ كانوا في بحبوحة من النعمة فلما جاءهم رسول من المنعم عليهم يذكرهم بربهم ويوقظهم بأنهم خاطئون؛ إذ عبدوا غيره، كذبوه وأعرضوا عن النظر في دلالة تلك النعمة على المنعم المتفرد بالإلهية .

     والآية هنا: الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان، فهي آية على تصرف الله ونعمته عليهم، فلم يهتدوا بتلك الآية فأشركوا به وقد كان في إنعامه عليهم ما هو دليل على وجوده ثم على وحدانيته.

     وقال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ }(النحل: 112- 113).

وقال سبحانه:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ }(القصص: 58).

     يقول الشيخ عبد المحسن العباد موضحا معنى(تقييد النعم بالشكر): تقييدها معناه: الإبقاء عليها حتى لا تذهب وحتى لا تزول إنما يكون بالشكر، كما يقول بعض السلف: «النعم إذا شُكرَت قرّت، وإذا كُفرَت فرّت»، إذا شكرت حصل استقرارها وبقاؤها، وإذا كفرت فرت يعني: زالت وذهبت ولم يبق منها شيء، ويقولون: «لا بقاء للنعم مع الكفر، ولا زوال للنعم مع الشكر».

     ويقول بعض السلف: «النعمة وحشية فقيدوها بالشكر» معنى كونها (وحشية) يعني: غير مستأنِسة حتى تُشكَر، فإذا عُمل الشيء الذي يكون به بقاؤها استقرت واستأنست، وإلا فإنها تنفر وتذهب وتزول عن صاحبها، ولهذا جاء عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: «قيدوا نعم الله بشكر الله عزّ وجلّ»؛ فإن النعم إذا شُكرت فإنها تبقى وتستقر، وإذا كُفرت فإنها تزول وتضمحل وتذهب عن أصحابها، ولا يكون لها قرار ولا يكون لها بقاء».

وقال الحسن البصري: «إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا، ولهذا كانوا يسمون الشكر: الحافظ؛لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب؛ لأنه يجلب النعم المفقودة».

وقالوا: من لم يشكر النعمة فقد تعرّض لزوالها، ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها.

وفي كلام بعض المتقدمين: «أن كُفران النعم بوار، وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنَها بكرم الجوار».

فالعاقل من اعتبر، والسعيد من اتعظ بغيره كما قال الشاعر الحارث بن كلدة:

إن السعيد له في غيره عِظَةٌ          وفي الحوادث تحكيم ومُعْتبرُ

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك