رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 25 يونيو، 2012 0 تعليق

الحكمة ضالة المؤمن (54) الحلال بيّـن والحرام بيّـن

 

من الأحاديث العظيمة، والحكم النبوية النفيسة حديث النعمان بن بشير الذي هو قاعدة من قواعد الدين، وأصل عظيم من أصوله، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بيّـن وإن الحرام بيّـن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (متفق عليه واللفظ لمسلم).

       قال النووي: أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده، وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم  نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه.

      وقال ابن حجر: وقد عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة أحاديث تدور عليها الأحكام، قال القرطبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه.

        وقد دل الحديث على تميز الحلال البيّـن والحرام البيّـن، فالحلال المحض بيّـن لا اشتباه فيه، مثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام والأشربة الطيبة والألبسة المباحة والأنكحة المشروعة والمكاسب الطيبة، كما قال تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات}، وقال عز وجل: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}.

      والحرام المحض بيّـن لا اشتباه فيه، مثل أكل الميتة والدم والخنزير وشرب الخمر ونكاح المحارم والزنى ولبس الحرير للرجال والمكاسب الخبيثة كالربا والقمار والسرقة والغصب وأكل أموال الناس بالباطل.

       قال ابن رجب: فما ظهر بيانه واشتهر وعلم من الدين بالضرورة لم يبق فيه شك ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك فمنه ما يشتهر بين حملة الشريعة خاصة وقد يخفى على من ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضا فاختلفوا في تحليله وتحريمه.

        وقد أشار الحديث إلى هذا المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم : «وبينهما مشتبهات»، وفي لفظ للبخاري: وبينهما أمور مشتبهة، قال ابن حجر: أي شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين، وقال النووي: المشتبهات معناه أنها ليست بواضحة الحل والحرمة؛ ولهذا لا يعرفها كثير من الناس أما العلماء فيعرفون حكمها، وقال ابن رجب: وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام - يعني الحلال المحض والحرام المحض - وقال : من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام.

وقد يكون سبب اشتباه بعض الأمور:

1- تعارض النصوص في ظاهرها بين الإباحة والحظر.

2- وقد يكون سبب الاشتباه عدم ظهور سبب الحل أو المنع كما قال صلى الله عليه وسلم : «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها» (متفق عليه).

3- وقد يقع الاشتباه في الحكم لكون الفرع مترددا بين أصول تجتذبه كتحريم الرجل زوجته فإنه متردد بين تحريم الظهار الذي يوجب الكفارة الكبرى، وتحريم الطلقة الواحدة الذي يتحقق بانقضاء العدة، وتحريم الثلاث الذي لا تباح معه حتى تنكح زوجا غيره، وبين تحريم الرجل ما أحل الله له الذي يوجب الكفارة الصغرى.

       وهذه الأمور المشتبهة ليست مشتبهة من كل وجه، بل بيّـن صلى الله عليه وسلم أن أمرها لا يخفى على كل الناس، وإنما يعلم حكمها قلة منهم وهم العلماء الراسخون في العلم، فالشبهات على هذا تكون في حق غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين، قال ابن رجب: وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها، وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان: أحدهما: من يتوقف فيها لاشتباهها عليه، والثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه.

وقد بين الحديث مواقف الناس من المتشابهات:

فالأول: من كان عالما بها وبحكمها وعمل بما دل عليه علمه من حل أو حرمة فهذا أفضل الأقسام لأنه علم حكم الله وعمل به.

الثاني: من يتقي الشبهات لاشتباهها عليه ابتغاء مرضات الله وتحرزا من الإثم فقد استبرأ لدينه وعرضه، أي: طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين الذي يحصل لمن لا يجتنبها، كما قيل: من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء الظن به، وقد جاء في رواية البخاري: «فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك».

الثالث: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده فقد وقع في الحرام، وقد فسر ذلك ابن رجب بقوله: وهذا يفسر في معنيين: أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها (شبهة) ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح، وفي رواية البخاري: «ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، أو أن من أقدم على ما هو ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أم حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراما في نفس الأمر فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام».

        ولهذا جاءت الآثار عن السلف في التحذير والتوقي من المتشابهات، قال ابن عمر: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. وقال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال الذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حجابا بينه وبين الحرام.

وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام، وقال الثوري: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى.

        وقد ختم الحديث بقاعدة عظيمة توضح الأصل الذي ينطلق منه المسلم عند اعتراض المتشابهات لطريقه فقال صلى الله عليه وسلم : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه المحارم واتقاءه الشبهات إنما يكون بحسب صلاح قلبه، والعكس صحيح؛ فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله وفيه خشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات وتوقي الشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع الهوى فسدت حركات الجوارح، وانبعثت إلى المعاصي والشبهات.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك