رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد السعيدي 21 سبتمبر، 2020 0 تعليق

التوازن الفكري (1)

حين شرعت في كتابة هذه المجموعة من المقالات، كان تعريف التوازن عقبة تحول دون البدء في الكتابة، فالمصطلح جديد فيما يبدو لي في تراثنا الثقافي، والذين استخدموه مضافا إلى الفكر لم يقصدوا به معنى واحدا، فمنهم من يستخدمه كوصف إيجابي لعملية التفكير التي تؤدي إلى نتائج صحيحة، فهو عنده مرادف تقريبا لاستعمال المنطق في التفكير، وذلك عن طريق البحث عن مقدمات صحيحة للوصول إلى نتائج صحيحة، ومنهم من يريد بهذا المصطلح المعطيات العلمية التي تبنى عليها الأفكار الصحيحة، ومنهم من يريد به الفكر المتوسط بين طرفي النقيض أو بين الإفراط والتفريط، فهو عند هؤلاء مرادف للوسطية، ومنهم من يعني بالتوازن الفكري: الفكر الذي هو عليه فأفكاره متوازنة وأفكاره غيره مختلة، وهؤلاء طائفة غير قليلة ليس في فكرنا العربي المعاصر وحسب، بل في الفكر والرأي العام العالميين.

     أما ما أعنيه هنا أي في هذه المقالات بالتوازن، وأرجو أن أوفق في الكتابة عنه فهو البناء على المعطيات الصحيحة في نظري لتكوين الأفكار، والاتزان لا يعني صواب الفكرة، بل صواب طريقة التفكير؛ فإن من مفارقات الفكر: أن سلوك طريق واحدة فيه لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة، وقبل الاستغراق في هذا المعنى يحسن أن أبدأ في ذكر مفهومي للفكر، فإننا حين نستعرض كشافات الاصطلاحات العلمية القديمة نجد الناس بين عالم ومتعلم وجاهل، وربما وجد في بعض الأوساط مصطلح المتكلم والفيلسوف، وفي العصر الحديث وجد مصطلحان ليس لهما وجود -بحسب علمي- في تراثنا القديم، وهما الثقافة والفكر، ويأتي منهما: المثقف والمفكر، ويحار الناس كثيرا في تحديد معناهما، ومن ثم يحارون في مواضع إطلاقهما.

الفكر خاصة

     وحديثنا عن الفكر خاصة، فالذي يظهر لي أن أكثر من يتعاطى هذا المصطلح في ثقافتنا العربية المعاصرة يريدون به «التصور الإجمالي والتفصيلي لواقع ما؛ من حيث كنهه وعوامل تكوينه ومآلاته وطرائق تحسينه وعلاج آفاته»، وتقييد التصور بالإجمالي والتفصيلي ليشمل الإدراك بنوعيه عند المناطقة الذين يقسمون الإدراك إلى تصور (وهو الإدراك المتجرد عن الحكم)، وتصديق (وهو الإدراك المتضمن للحكم).

شمولية الواقع

     والواقع يشمل الواقع الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمجتمع ما، فكل تصور لهذا الواقع في أي جزئية من جزئياته يعد فكرا، ولهذا يمكن القول: إن الفكر بهذا المفهوم مشاع بين الناس؛ فكل إنسان لديه تصور لما يحيط به مما ذكرنا، لكن الناس يختلفون في مكانة تصوراتهم باختلاف درجاتهم؛ من حيث حصولهم على المعلومة ونوعية تعلمهم وبصيرتهم، إلى غير ذلك من الفروق الفردية بينهم.

الفهم لمعنى الفكر

     وهذا الفهم لمعنى الفكر يتوافق إلى حد كبير ومفهوم علماء النفس الاجتماعي للرأي العام، وعليه يمكن القول: إن الفكر يساوي في كثير من مظاهره ما يسميه علماء النفس الاجتماعي وخبراء الإعلام بالرأي العام، وإن كان ثمة فرق بين الأمرين فهو أن الرأي العام قد يتضمن قضية تفرض على المجتمع إعلاميا أو سياسيا، وليست في الحقيقة من صميم اهتماماته، وربما لا تكون ضمن الأمور المؤثرة في حياته العادية، لكن وسائل الإعلام قد يكون لها مصلحة في فرضها على المجتمع، وهذا ما يحاول قادة الفكر دائما النأي بالمجتمع عنه، وذلك كي لا تكون انفعالات الأمة خادمة لأصحاب المصالح الخاصة.

الفرق بين الرأي العام والفكر

     وثمة فرق آخر بين الرأي العام والفكر، وهو: أن الأخير يراد به تصورات نخبة معينة من المثقفين، أما الرأي العام فالكل يشارك في تكوينه، وهذا الفرق قد لا يكون دقيقا، بل قد يكون غير مسلم به لأنه يحتاج إلى ضبط المراد بهؤلاء النخبة التي تستحق أن تستأثر بتسمية إنتاجها الذهني فكرا، مع أن البشر عموما لديهم نزعة فطرية نحو الحق، بمعنى أن الجميع يريد الحق فيما يعرض له من قضايا، ولا فرق في ذلك بين النخبة وغيرهم، بل قد تكون النخبة أقل ميلا إلى الحق من عامة الناس، باعتبار أنهم أكثر تعرضا للهوى الفكري والانتماء المدرسي من غيرهم، أما من سواهم فإن لديهم تسليما لا شعوريا بأنهم لا يمتلكون أدوات معرفة الحق في القضايا المتعلقة بالتصورات التفصيلية للواقع، ومن ثم الحكم من خلالها؛ وذلك لأن مصدر المعرفة المتفق عليه هو الحس أو ما يقوم مقامه، فلما كان الحس متعذرا في الغالبية الساحقة من قضايا الحياة العامة إلا على أناس محدودين جدا، فإن الغالبية الساحقة يعطون ثقتهم لمن يتصورون أنه قد وصل إلى المعلومة بطريق الحس أو بأقرب الطرق إلى الحس، وأن هذا الموثوق صادق معه إما لملازمته لصفة الصدق أو لأنه صاحب مصلحة في الصدق، ولعل قول الله -تعالى-: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يصدق هذه الفكرة، فالناس عموما ليس لديهم أدوات العلم بمعنى القطع والتحقق مما يسعون إلى التحقق منه.

القيادات الفكرية

     ولهذا نجد أن إقبال الناس على القيادات الفكرية إقبال طبعي، لا يحتاجون إلى من يدلهم عليه بل ربما صح القول بأنه فطرة، فالناس إذا لم يجدوا أمامهم مؤهلا لقيادتهم فكريا صنعوا لهم قائدا على مواصفاتهم الخاصة، ولعل هذا هو معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا ينزع العلم انتزاعا من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا».

     ولك أن تتأمل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اتخذ الناس» فالناس إذا لم يكن المؤهل لقيادتهم فكريا أمامهم اتخذوا من تلقاء أنفسهم قائدا فكريا ولو لم يكن مؤهلا، والناس يعرفون الموهوب والذكي ومن يملك القدرات الثقافية والخطابية التي تمكنه من التأثير وجذب الأتباع، لكن ليس كل من يستطيع تكوين قاعدة جماهيرية بهذه الصفات هو الأمثل حتما لقيادة الأمة فكريا.

آليات التوازن الفكري

     وأعود هنا للحديث عن قولي السابق: ومن مفارقات الفكر: أن سلوك طريق واحدة فيه -ولو كانت صحيحة- لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة، وهي مشكلة فلسفية قديمة أدت بكثير من الفلاسفة إلى القول بتعدد الحق؛ نظرا لعجزهم عن تفسير اختلاف الآراء في القضية الواحدة مع اتحاد منهج البحث فيها.

الحق المتعدد

      وهم يعنون بالحق المتعدد تلك النتائج المختلفة التي يصل إليها المفكرون عند استخدامهم الآلة الصحيحة لبلوغ الحق، وهي التي يسميها علماء أصول الفقه: (أدوات الاجتهاد) والتي بنوا عليها قضيتهم الشهيرة: هل كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد وغيره معذور؟؛ حيث لا يعنون بالمصيب والمعذور من يتسورون على المسائل ويعطون فيها أحكاما دون أن يكون طريقهم لذلك الآلة الصحيحة للاجتهاد.

وعندما قسم العلماء الإدراك إلى تصور وتصديق فإنهم أردوا بذلك أن من لا يملك التصورات الصحيحة لا يمكن أن يصل إلى التصديقات الصائبة، وامتلاك التصورات الصحيحة هي في الحقيقة أدوات الاجتهاد في مسألة من مسائل الفكر.

امتلاك التصورات الصحيحة

     أخلص من هذا إلى أن أول مقوم من مقومات التوازن الفكري هو امتلاك التصورات الصحيحة عن كل قضية يراد الحكم عليها سلبا أو إيجابا، والتصور إما أن يكون تصورا أوليا ساذجا كتصور الصور من جبال وأنهار وصحارٍ، أو تصورا معقدا، وهو تصور المعاني كالحق والصدق والصواب والخطأ وتصور المغيبات كالجن والملائكة، وكل صنف من هذه التصورات يحتاج إلى جهد لامتلاكه يختلف عن الجهد المراد للصنف الآخر، فحين أتصور الناقة لا أحتاج إلى مجهود ذهني كبير لأنه بمجرد طروء الاسم على الخاطر تنتج صورة مطابقة، لوجود مثيلاتها في الذاكرة، أما حين أتصور حيوان الباندا فأحتاج إلى مجهود ذهني أكبر لعدم وجود رصيد مطابق في الذاكرة، وربما لا أصل إلى الصورة الصحيحة، وأحتاج في الوصول إليها إلى البحث عن صور مطابقة، ومع ذلك فإن المجهود الذي يبذله الذهن في تصور الباندا أقل بكثير من المجهود الذي يبذله لتصور الروح والملائكة والحق والخطأ والصواب.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك