
التربية الفكرية للأبناء في مرحلة الصغر (1)
من مسؤولية الوالدين تجاه أولادهما: تربية فكرهم، ورعاية عقلهم؛ لينتفعوا به انتفاعًا يزيدهم إيمانًا بالله -تعالى-، وحبًا له، واعتزازًا بدينهم، ودفاعًا عنه ضد التيارات الفكرية المنحرفة سواء الداخلية والخارجية، ومَن نظر في الواقع نظرة فاحصة مِن نواحيه جميعها، واطَّلع على مخططات الأعداء، وما يُحيكونه مِن مؤامرات على شباب المسلمين أيقن بأهمية هذه المسؤولية، فما زالت مؤامرة (تجفيف المنابع) تسير على قدم وساق، وسياسة فصل الدين عن الحياة: تعليمِها، اقتصادِها، سياستِها، اجتماعياتِها، إلى آخر ذلك.. سمة بارزة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الغاية العظمى
ينبغي أن يكون خوفكما على أولادكما بعد بيان هذه المخاطر كخوفكما على أبدانهم، بل أشد؛ لأنه خوف على الدين الذي به سعادة الدنيا وفلاح الآخرة، وأن الخسارة فيه خسران الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الزمر:15)، وقال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)، وإن التربية لن تكون صالحة مصلحة إلا في إطار غايتها العظمى، وهي عبادة الله وحده لا شريك له.
إرشادات مهمة
ولكي تكون التربية الفكرية صالحة مصلحة نضع الإرشادات التالية التي نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا للعمل بها، وغرسها في أولادنا، وإن أفضل مواهب الله لعبده العقل، قيل لابن المبارك: ما خير ما أُعطي الرجل؟ قال: «غريزةُ عقلٍ». قيل: فإن لم يكن؟ قال: «أدبٌ حسن». قيل: فإن لم يكن؟ قال: «أخ صالح يستشيره». قيل: فإن لم يكن؟ قال: «صمت طويل». قيل: فإن لم يكن؟ قال: «موت عاجل»، وقيل لعطاء: ما أفضل ما أُعطي العبد؟ قال: «العقل عن الله».
الواجب على العاقل
قال أبو حاتم البُستي -رحمه الله-: «فالواجب على العاقل أن يكون بما أحيا عقله مِن الحكمة أكلَفَ منه بما أحياه جسده مِن القوت؛ لأن قوت الأجساد المطاعم، وقوت العقل الحِكَم، فكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب، فكذلك العقول إذا فقدت قُوتها مِن الحكمة ماتت»، وقيل لرجل مِن العرب عُمِّر دهرًا: أخبرني بأحسن ما رأيته؟ قال: «عقلٌ طُلِبَ به مروءة مع تقوى الله وطلب الآخرة» (انظر روضة العقلاء ص18 وما بعدها)، هذا غيض مِن فيض في فضل العقل، وسعي العبد للحكمة التي هي العلم النافع والغذاء الصالح له.
مفهوم العقل
والعقل اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب، والعلم باجتناب الخطأ، ولا يولد أحد عالمًا، وإنما العلم بالتعلم، وعلى الوالدين تقع هذه المسؤولية.
خصائص الملكات العقلية
ينطلق الوالدان مِن هذه الخصائص قيامًا بمسؤولية التربية الفكرية بُغية الوصول إلى التكامل التربوي السليم في شخصية طفلهما.
الذكاء
وهو سرعة الفهم، والذكي هو مَن وُهب القدرة على الفهم السريع، وهو محض فضل مِن الله -تعالى-، ولحِكَمٍ عظيمة فاوت الله -عز وجل- فيه بيْن عباده كغيره مِن العطايا، قال الله -تعالى-: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف:32)، قال العلامة الجزائري -حفظه الله-: «فيها بيان الحكمة في الغنى والفقر، والصحة والمرض، والذكاء والغباء» اهـ مِن التفسير 4/638، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه بقَدَر؛ فقال: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ» (رواه مسلم)، قال القاضي عياض -رحمه الله-: «الكيس ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور، ومعناه: أن العاجز قد قـُدِّر عجزُه، والكيِّس قد قـُدِّر كيسُه» اهـ مِن شرح النووي 16/205.
اختيار الزوجة
ودلتنا السنة أيضًا على أن الولد يرث مِن والديه؛ لذا حثتنا السنة على حسن اختيار الزوجة، فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ» (رواه ابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ» (متفق عليه).
الاهتمام بالولد
يقول علماء التربية: يتميز الذكاء في مرحلة الطفولة المبكرة بنمو سريع؛ ولهذا كان الاهتمام بالولد في هذه السنوات الأولى مُهمًا؛ لتنمية ذكائه وبنائه؛ فعلى الأب أن يتعرف على ذكاء ولده، وسبل تنميته، ويُمكنه أن يعرف ذلك بأمور.. منها:
معالي الأمور
طلبه لمعالي الأمور، كأن يقول: أنا الأول، أو يقول لرفاق اللعب: مَن معي؟ فهذا ذكاء وتميز وظهور مبكر لقيادته وتقدمه.
كثرة حركته
وكذا كثرة حركته، وزهده في السكون، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن هناك علاقة بين الحركة والعقل؛ ولذلك ينبغي ألا نحد مِن حركته، وألا نمنعه من اللعب، بل نوفر له البيئة المناسبة لاستغلال طاقته وإخراجها.
أسئلته المستمرة
وكذا أسئلته المستمرة، وحب الاستطلاع، وهنا ينبغي الإنصات له، وتشجيعه والإجابة عن أسئلته بصدق ووضوح، وبما يتناسب مع عقله، والحذر من صدِّه أو تعنيفه لعدم كبته وقتل هذه الملكات، بل وإذا بلغ سنًا يُمكنه فيه القراءة شجعناه عليها، واستثرنا معلوماته بالأسئلة، واستمعنا له باهتمام؛ فهذا يدفعه إلى مزيد، ويُربيه على الشجاعة والجرأة، وفصاحة اللسان والبيان.
حكاية القصص
وفي مرحلة الطفولة المبكرة نحكي له قصصًا مناسبة بعيدة عن الأساطير، وبلغة سهلة فصيحة تزيد مِن ثروته اللغوية، ونطالبه بإعادتها، وينبغي أن نراعي المكافأة إذا أحسن، وأن نساعده على الإحسان إذا أساء.
- نستثير ذهنه بالأسئلة المتنوعة، فإن أصاب شجعناه بالكلمات الطيبة والجوائز المحبوبة لنفسه.
- نعوِّده ألا يسأل إلا بعد أن يفكر في الجواب، فإن عجز قربنا له الجواب عن طريق الحوار المتدرج مِن الأسهل إلى الأصعب، وهكذا حتى يصل إلى الجواب الصحيح.
السؤال الصحيح
- يُعوَّد أن يسأل سؤالاً صحيحًا؛ فإن سأل عن الله -تعالى- بـ:«من خلق الله؟»، قلنا له: ماذا قال الله عن نفسه في سورة الإخلاص؟ إذاً، فهو لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ثم نقول له: ينبغي أن يكون السؤال عن الله -تعالى- عن آياته وآلائه، ونرشد إلى التأمل والتدبر في خلق الله -تعالى- في السماء وما فيها، والأرض وما عليها؛ ليكون له تبصرة وذكرى، وشوقًا إلى الله، وحبًا له.
ألعاب مناسبة
- توفير ألعاب مناسبة حلال له في البيت يلعب بها مِن آنٍ لآخر ولاسيما ألعاب الذكاء التي تنمي مهارات التفكير.
المشكلات البسيطة
- نشركه في مرحلة الطفولة المتأخرة في حل القضايا والمشكلات البسيطة، وإحضاره مجالس العلم ومجالس الكبار لتتسع مداركه، وحذار مِن الاستهانة به أو ملكاته، فللصبي حدة ذهن قد لا تكون للكبير، دلَّ على ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟». فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ -أي: لوجود كبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر- ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ» (متفق عليه). وفي رواية لمسلم: قال عبد الله: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ. قَالَ: «لأَنْ تَكُونَ قُلْتَ: هِيَ النَّخْلَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا». وهذا تشجيع مِن عمر لابنه أن يتحدث في مجالس الكبار ما دام سيتحدث بعلم عجزوا عنه.
العلم مفتوح
وفيه أيضًا: أن العلم مفتوح ومواهب يفتح الله به على مَن يشاء مِن عباده، وإن كان صغير السن كابن عباس أيضًا الذي كان يحضره عمر - رضي الله عنه- مجالس الكبار لعلمه، ويقول له: «قل ولا تحقر نفسك»، وكان ابن شهاب الزهري -رحمه الله- يشجع الأطفال، ويقول: «لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم»، وكان الحسن يقول: «قدموا إلينا أحداثكم؛ فإنهم أفرغ قلوبًا، وأحفظ لما سمعوا».
التربية كلٌّ متكامل
وننبه هنا على أن التربية كلٌّ متكامل، بعضها مرتبط ببعض؛ فالتربية الفكرية مرتبطة جدًا بالتربية النفسية، فالجو الذي يشيع فيه الحب والرفق والتشجيع يُخرج ملكات الطفل ومواهبه وينميها، فيحاول الأبوان الكريمان أن يجعلا ابنهما بهذه المثابة، والحذر ثم الحذر مِن الضدِّ.
لاتوجد تعليقات