رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 10 فبراير، 2025 0 تعليق

أسس العلاقات الدولية في الإسلام: البر والإحسان والعدل والإنصاف

  • شهد التاريخ الإسلامي أنواعا من التعامل مع غير المسلمين في العلاقات الدولية كانت مثلاً أعلى في الموضوعية والتجرد والإنسانية
  • القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية أنَّ المسلمين يتعاملون مع غيرهم بقواعد العدل والبر والإحسان أما المقاطعة والخصومة إنما تكون في حال الظلم والقتل والعدوان
  • اهتم الإسلام بمسألة الوفاء بالعهود وجعلها من فضائله ولم يتسامح فيها أبدا لأنها قاعدة الثقة التي من دونها ينفرط عقد الجماعة ويتهدم
  • العدل والقسط من أعظم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة في التعامل مع الآخرين ولذلك تكرر لفظ العدل ومشتقاته في القرآن الكريم ثماني وعشرين مرة
  • كان المسلمون الأوائل في معاملاتهم وتجارتهم وعهودهم أوفى الناس ذمة وأحرصهم على تنفيذ المعاهدات الخاصة والعامة على أكمل وجه
  •  من المبادئ السامية في العلاقات الدولية في الإسلام حماية حقوق غير المسلمين ووجوب صيانتها ضد من يريد إيذاءهم من داخل مجتمع الإسلام أو من خارجه
  • الإسلام يدعو إلى السلام بوصفه أساسا للعلاقات الدولية فالحرب في الإسلام لا يلجأ إليها إلاّ في حال الضرورة فهي ليست محبوبة من حيث المبدأ بل هي مكروهة في نفوس المؤمنين
  • الإسلام جعل حل النزاعات الدولية بالطرائق السلمية جزءا لا يتجزأ من منهج الإسلام الحضاري الذي يستهدف إرساء قواعد السلام وحماية الحياة البشرية من الشر
 

يتميز فقه السياسة الشرعية بشموليته في تنظيم أنواع العلاقات الاجتماعية والسياسية ومستوياتها؛ سواء ما تعلق منها بعلاقة الدولة بأفرادها ورعاياها، أم ما كان من علاقات الدولة بعضها ببعض، ولقد تأسست العلاقات الدولية في الإسلام على مبادئ وقواعد تحفظ مقاصد الإسلام وأصوله، وهذه القواعد مستمدة من القرآن الكريم والسُنَّة النبويَّة، وأهم هذه المبادئ: العدل والإنصاف، والسِلْم والسلام، واحترام العهود والمواثيق، والرحمة، وحماية حقوق الآخرين سواء مسلمين أم غير مسلمين، والتعاون الإنساني، والدفاع عن المظلومين، وعدم الاعتداء على الآخرين، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.

  ويمكن تلخيص تنظيم الإسلام للعلاقات الدولية في حال السِلْم، وفي حال الحرب في آيات سورة الممتحنة وهي قوله -تعالى-: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقوله -تعالى-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وقوله -تعالى-: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.  

إزالة العداوة وتحقيق المودة

         فالآية الأولى تبين أنَّ الإسلام يتطلع إلى إزالة العداوة، وتحقيق المودة بالوسائل المتاحة، وأما الآية الثانية فتبين العلاقة مع غير المسلم في حال الحرب والعداوة؛ حيث تقوم على أن يتحد المسلمون ويكون ولاؤهم لله -تعالى- وللمؤمنين بالمحنة والنصرة، وألا تكون نصرتهم لهؤلاء المحاربين ومع ذلك تقوم على العدل والإنصاف حتى في حال الحرب. وأما الآية الثالثة تبين العلاقة بين المسلمين وغيرهم في حال السلم وعدم الاعتداء؛ حيث تقوم على قاعدتي: البر والإحسان، والعدل والقسط.

           والعظيم في هذه الآية أنها جاءت في سورة تبدأ بما فعله أعداء الله -تعالى- مع المسلمين، وما يريدون أن يفعلوه معهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}، ثم يقول الله -تعالى-: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}، ومع ذلك أمر الله -تعالى- فيها بالعدل وعدم الظلم، كما أكد ذلك قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.  

القاعدة الإسلامية الكبرى

           إنَّ هذه الآيات تؤكد أن المسلمين يتعاملون مع غيرهم على قواعد العدل في جميع الأحوال، وعلى قواعد البر والإحسان أيضا إذا لم يمارس ضد المسلمين الظلم والإخراج والقتل والإرهاب، فالقاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية هي جعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان وفيما عدا ذلك تكون العلاقة هي البر والإحسان.  

مبادئ العلاقات الدولية في الإسلام

ونتناول فيما يلي عددا من المبادئ الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية في الإسلام:

العدل والقسط

         الإسلام يحث على العدل في التعامل مع الجميع، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (النحل:90)، والعدل يشمل حتى الأعداء؛ حيث حرم الإسلام الظلم في حال الحرب أو الخصومة، والمتأمل في واقعنا اليوم يجد عالَمُنا تتجاوزُ فيه صورٌ من الظلم والجَور والعُدوان حدودَ الزمان والمكان، وتظهرُ فيه ألوانٌ من البغي وانتِقاص الحقوق الإنسانية المشروعة. إن العدل والقسط من أعظم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة، بل تقوم عليه السماوات والأرض؛ ولذلك تكرر لفظ العدل ومشتقاته في القرآن الكريم ثماني وعشرين مرة، كما ذكر رديفه (القسط) في القرآن الكريم، وتناول القرآن الكريم خلالهما أهمية العدل والقسط؛ حيث أمر بالعدل والإحسان، فقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل:90) وقال -تعالى-: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وقال -تعالى-: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، وقال -تعالى-: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ}، وشدد في حرمة عدم العدل مع قوم ولو كانوا أعداء فقال -تعالى-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وأمر المسلمين أن يكون حكمهم قائماً على العدل بين الناس جميعا، بل جعل العدل أساسا للحكم الإسلامي، فقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، وشدد الإسلام في اتباع الهوى والرغبات والمصالح الشخصية ليؤدي ذلك إلى ترك العدل فقال -تعالى-: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا}، وأمر بالعدل حتى مع البغاة الخارجين على الدولة المقاتلين، فقال -تعالى-: {فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

الناحية العملية

          ومن الناحية العملية شهدت السيرة النبوية العطرة وتعامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع الناس جميعاً أروع الأمثلة في العدل والقسط، وامتثلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرَ ربِّه وتوجيهه، وطبَّق العدل والإنصاف في كل أحواله وأيامه، وسُنَّتُه الشريفة وسيرتُه العطِرة خيرُ مِثالٍ وشاهِد، وتربيتُه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه على الإنصاف والعدل مع المُوافق والمُخالف لا تُحصى شواهِدُه، ولا تُعدُّ نماذجُه.

السِلْم والسلام

         الإسلام يدعو إلى السلام كأساس للعلاقات الدولية، يقول الله -تعالى-: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (الأنفال: 61)، الأصل في الإسلام هو السلام لا الحرب، والحرب في الإسلام لا يلجأ إليها إلاّ في حال الضرورة، فهي ليست محبوبة من حيث المبدأ بل هي مكروهة في نفوس المؤمنين فقال -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}، وقد أكد القرآن الكريم ذلك حيث يقول: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقد منّ الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه بأن منعهم من الوقوع في الحرب فقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}، وتدل هذه الآية بوضوح على أن الإسلام دين سلام وعقيدة، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه.

احترام العهود والمواثيق

           اهتم الإسلام بمسألة الوفاء بالعهود، ولم يتسامح فيها أبدا؛ لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم، وجعل من الفضائل فضيلة الوفاء بالعهد، واحترام الوعود، فقد أمر -سبحانه- عباده المؤمنين بالإيفاء بالعقود، فقال -سبحانه-: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة:1)، وجعل الالتزام بالعهود والوعود من المسؤوليات التي يحاسب عليها المؤمن، فقال عزوجل: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء:34)، من أجل ذلك، كان نقض العهد نقيصة؛ لأن الإنسان يحيد بها عن حق الله -تعالى-، وحق عباده؛ ذلك أن من ينقض ما عاهد الله عليه، من السهل أن ينقض عهود الناس، وألا يلتزم بوفاء الوعود، ما يجعل العلاقات الإنسانية عرضة للمخاطر التي تجلب الأضرار المادية والمعنوية، وتلحق الأذى والدمار بالصلات والروابط على اختلافها، ولهذا، بعد أن أمر الله بالعدل والإحسان، ونهى عن المنكر والعدوان، أعقب ذلك بقوله -سبحانه-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ} (النحل:91)، توجيها للناس نحو الحق والخير، وأمرا لهم بالوفاء بالعهد، ونهيا عن نقض الأَيمان، وقد كان المسلمون الأوائل في معاملاتهم وتجارتهم وعهودهم أوفى الناس ذمة، وأحرصهم على تنفيذ المعاهدات الخاصة والعامة على أكمل وجه.

حماية حقوق غير المسلمين

          من المبادئ السامية في هذا الباب حماية حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، فقد وردت كثير من النصوص في حرمة أنفس وأعراض ودماء غير المسلمين، ووجوب صيانتهم وحمايتهم ضد من يريد إيذاءهم من داخل مجتمع الإسلام أو من خارجه، ورتبت على من أذاهم من المسلمين عقوبات شديدة رادعة لكل من تسول له نفسه النيل منهم، والإخفار بذمة الله ورسوله والمسلمين فيهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل معاهدا لم يَرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما»، فهذه النصوص وغيرها إحدى وسائل الصيانة والحماية التي أقرها الإسلام لغير المسلمين في مجتمعه، والحماية المقصودة هنا تشمل الحماية الخارجية من الأعداء، والحماية الداخلية من الظلم والأذى بأنواعه وصولاً إلى إزهاق النفس، وهذا الحق ثابت لرعايا الدولة الإسلامية من غير المسلمين (أهل الذمة) بموجب عقد الذمة الذي ألزمهم بالجزية، وألزم جماعة المسلمين بحمايتهم في النفس والعرض والمال وغيرها.

حل النزاعات سلميا

           إذا كان النزاع جزءا من التحديات المستمرة في العلاقات الدولية منذ القدم، فإن الإسلام جعل حل النزاعات الدولية بالطرائق السلمية جزءا لا يتجزأ من منهج الإسلام الحضاري، الذي يستهدف إرساء قواعد السلام وحماية الحياة البشرية من الشر، هذا المنهج يتضمن تقديم مفاهيم واضحة حول كيفية تسوية النزاعات، سواء عبر الدعوة إلى السلام، وفتح قنوات الحوار، وقد أطلق الله -تعالى- لفظ «الخير» على «الصلح» فقال -سبحانه-: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، وقال -تعالى-: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، ولم يقل بين المؤمنين فقط، بل عمم الصلح والإصلاح بين الناس جميعا، فذلك الخير والأنفع، وقال -تعالى-: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.  

الدفاع عن المظلومين

         رسالة الإسلام هي إقامة الحق، ورحمة الخلق؛ ولذلك كانت نصرة المستضعفين وإجارة المستجيرين والدفاع عنهم من القواعد الأخلاقية التي أسَّسها الإسلام ودعا إليها؛ قال الله -تعالى-: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (النساء: 75). والسيرة النبوية -بما فيها مِن مواقف وأحداث دالة دلالة واضحة على حرص نبينا - صلى الله عليه وسلم - وحثه على نُصرة المظلومين والمُسْتَضْعَفين، ومن ذلك ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حِلْف الفضول تلك المعاهدة التي وُقِّعت في مكة المكرمة قبل البعثة النبوية، بين عشائر مِنْ قريش، وقد شهِده النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لِمَا اشتمل عليه مِنْ خير وعدل ونُصرة للمظلومين، وهذا الحِلف كان تجمعا وميثاقا تنادت فيه المشاعر الإنسانية لنصرة المظلوم، والدفاع عن الحق، ويُعْد مِنْ مفاخر العرب قبل الإسلام، إنَّ هذا الحلف يُعطينا أصلاً قانونيا، ودليلاً على تنظيم الإسلام للعلاقات الإنسانية على المستوى الدولي، والحث على دعم المنظمات الدولية الإنسانية التي تعمل على إغاثة المظلومين ونصرتهم، والدفاع عن حقوقهم، ومقاومة الظلم والطغيان في أي بقعة من بقاع العالم.

الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة

          من المبادئ المهمة التي وضعها الإسلام في التعامل مع الآخرين سواء مسلمين أم غير مسلمين، أن تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس بالإكراه، قال الله -تعالى-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل: 125)، وقد أكد القرآن الكريم توجيه الأمة أن تكون الدعوة بالحوار، والجدال بالتي هي أحسن، كما نهى القرآن عن الجدال مع أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن فقال -تعالى-: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، والقرآن الكريم نفسه هو كتاب حوار؛ حيث استعرض مجموعة رائعة من الحوارات منها: حوار الملائكة مع الله -تعالى- في استخلاف الإنسان، ومنها حوار الشيطان مع الله -تعالى-، وحوار الأنبياء مع الله مثل حوار موسى، ومنها حوار الأنبياء مع أممهم وشعوبهم، ولقد سجل التاريخ أن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أرسل مبعوثيه إلى كل من: النجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وهرقل إمبراطور الروم، وكسرى ملك الفرس، وأسقف نجران وزعماء يهود خيبر وملوك عمان والبحرين واليمن، فضلا عن مجموعة أخرى من زعماء القبائل المتفرقة في شبه الجزيرة وأطرافها.  

الإسلام نظام عالمي يتعايش مع الآخر

خلاصة القول: العلاقات الدولية في الإسلام تقوم على مبادئ أخلاقية وإنسانية، تستهدف إلى تحقيق السلام والعدل والتعاون بين الشعوب، هذه المبادئ تجعل الإسلام نظاما عالميا قادرا على التعايش مع الآخرين باحترام وعدل.  

تعامل المسلمين مع غيرهم

         شهد التاريخ الإسلامي أنواعا من التعامل مع غير المسلمين في العلاقات الدولية، كانت مثلاً أعلى في الموضوعية والتجرد والإنسانية، ولا تكاد تجد في أحكام التشريع الإسلامي في العلاقات الدولية ما يتنافى مع الأصول الصحيحة للحياة العزيزة الكريمة لكل الأمم والشعوب ولا ما يرفضه العقل السليم وتقتضيه المعاملة الكريمة، ولم يكن الجهاد في الإسلام لفرض الإسلام على أحد وإنما كان انتشار الإسلام بالحجة والبرهان والعقل والحكمة.  

علاقات الدولة الإسلامية بغيرها وبالمواثيق الدولية

قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم: 160 بشأن علاقات الدولة الإسلامية بغيرها وبالمواثيق الدولية بعد اطلاع مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع علاقات الدولة الإسلامية بغيرها وبالمواثيق الدولية، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يأتي:
  • أولا: إن العلاقة بين الدول الإسلامية والدول الأخرى المكونة للمجتمع الدولي، تقوم على السلام ونبذ الحروب، والاحترام المتبادل، والتعاون بما يحقق المصالح المشتركة للإنسانية، في إطار المبادئ والأحكام الشرعية.
  • ثانيا: إن الدولة الإسلامية لا تعادي أية دولة أخرى لمجرد الخلاف في الدين، وإنما تعادي فقط من يبتدرها بعدوان، أو يُسيء إلى رموزها ومقدساتها؛ وذلك لأن الحرب في الإسلام هي وسيلة أخيرة يتمّ اللجوء إليها للدفاع عن النفس، ولرد أي عدوان.
  • ثالثا: ضرورة التعاون والتكامل بين الدول الإسلامية في جميع المجالات، مثل إقامة السوق الإسلامية المشتركة، والمناطق الاقتصادية الحرة، وإبرام اتفاقيات التعاون في مختلف المجالات الدولية.
  • رابعا: ليس هناك مانع شرعي من إبرام الاتفاقيات الدولية التي لا تتعارض مع مبادئ الإسلام وأحكامه، ولا تؤدي إلى هيمنة أي قوة دولية على الدول المتعاقدة أو على الدول الأخرى وذلك في جميع المجالات التي تحقق مصلحة المسلمين.
 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك