رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 7 أغسطس، 2010 0 تعليق

شرح كتاب “الاعتصام بالكتاب والسنة” من صحيح الإمام البخاري (2)

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.

ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.

ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

وها نحن أولاء نبدأ في هذه الحلقة بشرح الأحاديث من هذا الكتاب:

 

 

 

- الحديث الأول: قال البخاري رحمه الله تعالى:

7268- حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان, عن مسعر وغيره, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين , لو أن علينا نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) لاتخذنا ذلك اليوم عيدا , فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية, نزلت يوم عرفة, في يوم جمعة». سمع سفيان من مسعر, ومسعر قيسا, وقيسا طارقا، طرفه في 45.

الشرح:

الحديث الأول: رواه البخاري عن شيخه الحميدي، وهو عبد الله بن الزبير الحميدي, عن سفيان وهو ابن عيينة الهلالي, عن مسعر وهو ابن كدام الهلالي, عن قيس وهو ابن مسلم الكوفي، عن طارق ابن شهاب البجلي وهو صحابي على الصحيح، قال: "قال رجل من اليهود لعمر", جاء في رواية البخاري في كتاب الإيمان أنه: "قالت اليهود", وفي رواية للإمام الطبري والطبراني أن القائل هو: كعب الأحبار، ولعل اليهود كلفوه بأن يسأل عمر.

«قال رجل من اليهود لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين, لو أن علينا نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3), لاتخذنا ذلك اليوم عيدا».

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}( المائدة : 3) , ظاهر هذه الآية يدل على أن الدين كملت أحكامه وتشريعاته، وحلاله وحرامه عند نزول هذه الآية, وهذه الآية كما قال أهل العلم نزلت على النبي [ قبل موته بثمانين يوما, وقد جزم السدي بأنه لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، قال الحافظ: وفي ذلك نظر, وقال: قد ذهب جماعة إلى أن المراد بالإكمال: إكمال أصول الأركان، لا ما يتفرع عنها.

يعني: قد أكمل الله عز وجل لهذه الأمة أركان دينها ومعالم شريعتها بهذه الآية، أما الفروع التي هي دون الأصول والأركان فيمكن أن تزاد, وعلى كل حال فإن الجميع مجمعون على اكتمال الدين قبل وفاة الرسول [.

فالرسول [ لم يمت إلا بعد أن أكمل للأمة دينها، ووضح لها معالم شرعها, ولم يكتم [ من ذلك شيئا كما أمره الله عز وجل: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) , فلم يكتم عليه الصلاة والسلام شيئا من الوحي، بل بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه, فصلوات الله وسلامه عليه.

والرسول [ قد أنزل الله إليه القرآن ليبين للناس كما قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل: 44) فربما وضح إليهم ما كان مجملا في كتاب الله، وفسر لهم ما كان غامضا في وقته عليه الصلاة والسلام, وبعده عليه الصلاة والسلام يُرجع في تفسير هذه المجملات إلى العلماء؛ كما قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83).

فقائل هذه الكلمة يعلم قيمة هذه الآية، ولهذا قال:"لاتخذنا ذلك اليوم عيدا" أي: نفرح فيه بإكمال الدين وإتمامه.

والعيد: مأخوذ من العود، وهو ما يعود في كل عام أو في كل زمان, فسمي العيد عيدا من العود, والعيد كما قال أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه:" اقتضاء الصراط المستقيم": العيد شريعة، ولا شريعة إلا ما شرعها الله"، وبهذا نعلم أن التوسع في إحداث الأعياد مخالف الشرع, والرسول [ لما جاء إلى المدينة، كان للناس يومان يلعبون فيهما؛ فقال [ : "إن الله أبدلكم بهما خيرا منهما، يومي الفطر والأضحى".

فألغى النبي [ ونسخ أعياد الجاهلية، وأثبت أعياد الإسلام, فاليومان اللذان كانا يلعبون فيهما نُسخا وألغيا، وأُثبت مكانهما يوما الفطر والأضحى.

وهناك عيد ثالث وهو يوم الجمعة المتكرر، فإن يوم الجمعة أفضل الأيام عند الله عز وجل؛ كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة؛ ولذلك اعتبره العلماء من الأعياد الأسبوعية المتكررة، ولأمر النبي [ فيه المسلم بالاغتسال في هذا اليوم العظيم، والتطيب والسواك، ولبس النظيف من الملابس, هذا كله يدل على أنه عيد في كل أسبوع للمسلمين, والآية السابقة نزلت في يوم جمعة، كما قال عمر: "إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية, نزلت يوم عرفة في يوم جمعة".

وفي رواية قال رضي الله عنه: «إني لأعلم أين نزلت هذه الآية، ومتى نزلت، أو حين نزلت». أي أعلم الزمان والمكان.

وفي رواية عند مسدد: "نزلت يوم جمعة, يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله عيد"، فهذه الآية قد نزلت يوم عيد للمسلمين, وذلك لأنها نزلت يوم جمعة, ويوم الجمعة هو عيد للمسلمين كما سبق, كما أنها في الزمان يوم عرفة, وعرفة ليلة العيد ويصح أن يقال: عرفة عيد.

فهذه الآية إذاً وافق نزولها يوم عيد للمسلمين، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة، أن الله تبارك وتعالى أنزل عليها هذه الآية في يوم عرفة ووافق الجمعة، فاجتمع فيه فضلان: فضل عرفة الذي صيامه يكفّر سنتين: ماضية ومستقبلة, ويوم جمعة الذي هو سيد الأيام وأفضلها عند الله تبارك وتعالى.

ويشيع عند العامة حديث: أن يوم عرفة إذا وافق الجمعة كان عن سبعين حجة! وهذا حديث ذكره رزين في زياداته على الموطأ، ولا أصل له في كتب السنة، ولا يعرف مخرجه ولا صحابيه، كما قال الحفاظ كالحافظ ابن حجر وغيره.

ولكن لا شك أن يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة كان فضلا على فضل، وربما يقال «سبعون» من باب المبالغة؛ كما قال الله وتعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: 80) على وجه المبالغة، أما أن من حج ووافق الجمعة عرفة، يكون ذلك عن سبعين حجة فى الأجر المعدود، فلا يثبت هذا, لكن لا شك أنه أفضل من غيره من الحجج.

 قول البخاري رحمه الله: "سمع سفيان مسعر ومسعر قيسا وقيسا طارقا", هذا من باب إثبات السماع، وأن هذا الحديث متصل بالسماع, سفيان هو ابن عيينة سمع من مسعر، ومسعر سمع من قيس، وقيس سمع من طارق بن شهاب.

- الحديث الثاني:

7269- حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك: أنه سمع عمر, الغد حين بايع المسلمون أبا بكر, واستوى على منبر رسول الله [ , تشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد, فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم, وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم, فخذوا به تهتدوا, وإنما هدى الله به رسوله"، طرفه في : 7219.

الشرح: الحديث رواه البخاري عن شيخه يحيى بن بكير وهو ابن عبدالله القرشي المصري الحافظ، عن الليث وهو ابن سعد الفهمي قاضي مصر في وقته ومحدثها وعالمها، وله مذهب لكنه انقرض تقريبا إلا ما في الكتب, حتى قال بعض أهل العلم: إن الليث أعلم من مالك، ولكن مالك قام به أصحابه والليث لم يقوموا به. وعقيل الذي يروي عنه هو ابن خالد, وعامة الرجال الذين بهذا الاسم بفتح العين "عَقيل" إلا الراوي عن الزهري فإنه بالضم "عُقيل" بن خالد. عن ابن شهاب وهو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري الإمام التابعي الجليل، وهو فيما ذكر أهل العلم أول من دون السنة بأمر من عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه, وعيب عليه دخوله على السلاطين, ولكنه كان قوّالا بالحق، يدخل عليهم فيعظهم ويذكرهم بالله، ولم يكن ممن استمالتهم الدنيا.

قال: أخبرني أنس بن مالك، وهو الصحابي الجليل خادم رسول الله [، وممن روى عن النبي [ فوق الألف من الأحاديث, والذين رووا فوق الألف من الحديث عن النبي [ سبعة من الصحابة، منهم أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.

قوله: "أنه سمع عمر الغد حين بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله [، تشهد قبل أبي بكر فقال أما بعد: فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدي الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا, وإنما هدى الله به رسوله "وفي بعض النسخ" لما هدى الله به رسوله".

فأنس بن مالك رضي الله عنه يروي قصة مبايعة المسلمين لخليفة رسول الله [ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان خليفته [ في صلاته، فأم المسلمين في حياته [ بأمره، وقد رضيه الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم لدنياهم إذ رضيه رسول الله [ لدينهم، فالرسول [ رضي أبا بكر لدين المسلمين، فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" رواه البخاري؛ ولذا رضيه المسلمون والصحابة لإدارة شؤون دنياهم.

وقد قال السلف رحمهم الله: من قدّم عليا على أبي بكر، فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يعني: قد طعن في اختيار المهاجرين والأنصار، وانتقصهم واحتقرهم؛ لأن المهاجرين والأنصار هم الذين اختاروا أبا بكر, فمن قدم عليا على أبي بكر, أو قدم عثمان على أبي بكر, أو قدم عمر على أبي بكر, فقد أزرى وطعن واستخف بعقول المهاجرين والأنصار - والعياذ بالله - وهذا لا يرضاه مسلم لنفسه؛ لأن الله سبحانه قد أثنى على الصحابة من المهاجرين والأنصار، وأخبر أنه تعالى رضي عنهم وعمن تبعهم بإحسان، ورضوا عنه.

فمن تبع المهاجرين والأنصار فقد رضي الله عنه، ومن لم يتبعهم فقد سخط الله عز وجل عليه, لا شك في هذا، وهذه قاعدة مهمة في اتباع سلف الأمة.

قوله: "فلما بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله [ تشهد قبل أبي بكر, تشهد عمر وخطب قبل أن يخطب أبو بكر فقال عمر رضي الله عنه في خطبته: "أما بعد: فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم" يعني: أن الله عز وجل قد قبض نبيكم واختار له ما عنده جل وعلا في الرفيق الأعلى، على الذي عندكم في الحياة الدنيا.

"وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا، وإنما هدى الله به رسوله", أو "فخذوا به تهتدوا لما هدى الله به رسوله" وهذا تقرير من عمر رضي الله عنه وأرضاه أن موت النبي [ وإن كان مصيبة عظيمة حلت بالمسلمين، إلا أن الله تبارك وتعالى قد أبقى في أمته الكتاب العظيم الذي اهتدى به نبيها عليه الصلاة والسلام، فنحن وإن فقدنا رسول الله [ من بين أظهرنا، لكن كتابه لا يزال موجودا بيننا، وسنته عليه الصلاة والسلام لا تزال محفوظة, بل هما جميعا محفوظان إلى قيام الساعة؛ فلا يضر الإنسان موت النبي [ الضرر البالغ الذي يؤدي به إلى الضلال؛ لأن الكتاب محفوظ والسنة محفوظة, وقد قال الله سبحانه وتعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3), وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ( النساء: 80)، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، فكتاب الله سبحانه وتعالى الاعتصام به فلاح ونجاة.

وهذا حث من عمر على الاعتصام بالكتاب؛ لأنه يقول لهم: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات، ولكن الكتاب الذي هدى الله به رسوله بين أظهركم؛ فلا تخافوا من الضلالة، والله سبحانه وتعالى قد اختار لرسوله ما عنده على الذي عندكم، وهو سبحانه رؤوف رحيم بكم أيضا؛ لأنه لم يرفع الكتاب من بين أظهركم بعد وفاة نبيكم، بل هو لا يزال بين أظهركم تستطيعون الاهتداء به، وإذا أردتم الهداية لما هدى الله به رسوله.

هذا ملخص كلام عمر رضي الله عنه، وهي كلمات قليلة، لكنها وصية عظيمة بكتاب الله سبحانه وتعالى، وأن التمسك به سبب يحصل به المقصود من الهداية، والعصمة من الزيغ والضلال.

نسأله تعالى أن يعلمنا من كتابه ما جهلنا، ويذكرنا منه ما نسينا، إنه سميع الدعاء.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك