السعادة في السّنّة النّبويّة – السعادة في طاعة الله والاستقامة على أمره
ما زال حديثنا مستمرا عن السعادة في السنة النبوية، واليوم نتحدث عن أن سعادة الدنيا تحصل في طاعة الله -تعالى- والاستقامة عليها، فطاعة الله تسرع بالعبد إلى مقام الزلفى وترقيه إلى طريق السعادة العظمى، إذا وفّقه الله لها، فمن أراد السعادة الحقيقة فليلزم الطاعة؛ فهي لذة المسلم في الدنيا وسعادته.
ولمّا كانت الطاعة هي العبادة التي بها يحصل الكمال الإنساني للفرد في عقله وأخلاقه وأعماله، وللنوع في اجتماعه وعمرانه، وهذا الكمال هو سعادة الدنيا المفضية إلى السعادة الكبرى في الحياة الأخرى، كانت العبودية أشرف حالًا وأعظم مقامًا وأفضل وصفًا للإنسان، وكان أفضل إنسان أرسخ الناس قدمًا في هذا المقام.
راحة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة
وها هو ذا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه أمر يسره خرّ ساجدًا لله، والسجود عبادة وطاعة، فعبر عن سعادته - صلى الله عليه وسلم - بالسجود وهو من أعظم الطاعات؛ إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: «قُمْ يَا بِلَالُ، فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ»، فقد كانت راحته وطمأنينته وسعادته - صلى الله عليه وسلم - في طاعة الله -تعالى-، وهو تطبيق عملي يؤكد فيه للمسلم أن راحة العبد التي فيها سعادته وسكونه وانشراح قلبه إنّما تكون بالصلاة والقرب من الله، فإذا اتصل قلب العبد بالله، واستشعر العبد عظمة الخالق وقوّته وقدرته ولطفه ورحمته ورزقه وهداه، استجمع قلبه وأفرغ الدنيا منه، وأقبل على ربه يدعوه ويناجيه، واستلذ بطاعته وعبادته، فحينها يجعل الله غناه في قلبه، وتأتيه الدنيا وهي راغمة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ».
بالصبر والصلاة تتحقق السعادة
أن تجعل راحتك في الصلاة أمر شاق علي النفس وثقيل عليها إلا على الخاشعين لقوله -تعالى-: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} (سورة البقرة: 45)، وقوله - صلى الله عليه وسلم-: «أرحنا بها» أي أذن بالصلاة، نسترح بأذانها من شغل القلب بها، وكان اشتغاله بالصلاة راحة له، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعبًا، وكان يستريح بالصلاة؛ لما فيها من مناجاة الله -تعالى-؛ ولهذا قال:»وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»، وما أقرب الراحة من قرة العين! يقال: أراح الرجل واستراح إذا رجعت نفسه إليه بعد الإعياء.
ذكر الله تعالى مصدر السعادة
وجاء في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- عن المجتمعين على ذكر الله قوله - صلى الله عليه وسلم -:»هُمُ الجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ»، وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين، فلو قيل يسعد بهم جليسهم لكان ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود، وفي هذا تأكيد أنّ السعادة في طاعة الله، والعبد يشعر بذلك، فمتى كان قريبًا من الله مؤدّيًا للعبادات، انفتحت له الأبواب كلّها، وقلبه يرفرف سعادة وانشراحًا ورضا.
الإستقامة على طاعة الله تعالى
إذا استقام العبد على طاعة ربّه، فقد حظي بالسعادة، وابتعد عن الشقاء والمعاصي التي تجلب الغم والضيق إلى القلب.
عن أبي عمرو - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك. قال: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، فَاسْتَقِمْ».
هذا الحديث من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم–، ومعنى الاستقامة أي: وحدوا الله وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يحيدوا عن توحيدهم ولا أشركوا به غيره، والتزموا طاعته إلى أن توفوا على ذلك، والاستقامة على السلوك الإسلامي من أعظم السعادات في الدنيا، وهي الطريق للسعادة الأخروية.
في الحديث السابق طلب الصحابي - رضي الله عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم- كلامًا جامعًا للخير، موصلا صاحبه إلى الفلاح، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم- بالإيمان بالله الذي يشمل ما يجب اعتقاده: من عقائد الإيمان، وأصوله، وما يتبع ذلك: من أعمال القلوب، والانقياد والاستسلام لله، باطنًا وظاهرًا، ثم الدوام على ذلك، والاستقامة عليه إلى الممات، وهو نظير قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (سورة فصلت:30)، فرتب على الإيمان والاستقامة: السلامة من الشرور جميعها، وحصول الجنة، وهذه هي حقيقة السعادة، وقد دلت نصوص الكتاب والسّنّة الكثيرة على أن الإيمان يشمل ما في القلوب من العقائد الصحيحة، وأعمال القلوب: من الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، وإرادة الخير، وكراهة الشرّ، ومن أعمال الجوارح، ولا يتحقق ذلك إلا بالثبات عليه.
البشرى لمن استقام على طاعة الله
قال السعدي في تفسير قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} (سورة فصلت: 30) أي: اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية الله -تعالى- واستسلموا لأمره، ثم استقاموا على الصراط المستقيم، علمًا وعملًا فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
قال -تعالى- {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} (سورة الإسراء: 36)، فقد خص الله -سبحانه- هذه الأعضاء الثلاثة؛ لأنها أشرف الأعضاء، والمتصرفة فيها والحاكمة عليها، وسعادة الإنسان بصحة هذه الأعضاء الثلاثة، وشقاوته بفسادها، والله -تعالى- أعطى العبد السمع ليسمع به أوامر ربه ونواهيه وعهوده، والقلب ليعقلها ويفقهها، والبصر ليرى آياته فيستدل بها على وحدانيته وربوبيته، فالمقصود بإعطائه هذه الآلات العلم وثمرته ومقتضاه، ومتى كان العبد مطيعًا لله -تعالى- مستقيمًا على الدين القويم، راضيًا بقضاء الله وقدره، كان من الله أقرب، وإذا فاز العبد بالقرب من الله فقد حظي بالسعادة الدنيوية التي توصله إلى السعادة الكاملة الدائمة.
سعادة الدنيا تشوبها الأحزان
ففي الدنيا سعادة وطمأنينة لكنها ناقصة تشوبها الأحزان والابتلاءات، وهي سعادة زائلة لا تدوم، ومن أراد السعادة الكاملة فليلزم طريق العبودية في الدنيا. قال -تعالى-: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} (سورة النحل: 32).
الحياة الهادئة والنعيم المقيم في الآخرة
الحياة الهانئة والنعيم المقيم، والراحة التامة، إنما تكون في الآخرة، ففي الآخرة سعادة دائمة خالدة، وهي مرتبة على صلاح المرء في حياته الدنيا.
وقال -جل وعلا-: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)} (سورة النحل: 30)، وعد الله عباده المحسنين في عبادته وطاعته، والمحسنين إلى خلقه، بحياة حسنة طيبة ورزق واسع وعيشة هنية، وطمأنينة قلب وأمن وسرور، والإحسان مرتبة عالية في أداء العبادات فمن أحسن في عبادة الله، حظي بالسعادة الدنيويّة والرضا والانشراح القلبي، وزيادة على ذلك خير كثير في الآخرة، التي هي خير من الدنيا وما فيها من أنواع الملذات، فإنّ نعيم الدنيا قليل محشو بالآفات منقطع، بخلاف نعيم الآخرة، فمهما تمنت قلوب المتقين وتعلقت به إرادتهم حصل لهم على أكمل الوجوه وأتمها، فلا يمكن أن يطلبوا نوعًا من أنواع النعيم الذي فيه لذة القلوب وسرور الأرواح، إلا وهو حاضر لديهم، ولهذا يعطي الله أهل الجنة كل ما تمنوه عليه، حتى إنّه يذكرهم بأشياء من النعيم لم تخطر على قلوبهم، فسعادة الآخرة كاملة لا يشوبها نقصان ولا حزن، وهي دائمة لا يقطعها موت أو مرض، سعادة حقيقية في أعلى مراتب السعادة والحبور.
إنما العيش عيش الآخرة
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَة، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَه»، فهذا الكلام قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشد أحواله، لما رأى تعب أصحابه في حفر الخندق، وقاله في أسر الأحوال أيضًا لما رأى كثرة المؤمنين في يوم عرفة، لبيك إن العيش عيش الآخرة، أي الحياة الدائمة التي لا حزن فيها ولا تعب.
وهذا الدعاء النابع من عقيدة الإيمان باليوم الآخر له الأثر النفسي الكبير على نفسية المؤمن، ويُكوّن لديه مناعة نفسية قوية في الحياة، ويزوده بالتفاؤل والهمة للوصول إلى الهدف في جنة عرضها السماوات والأرض.
مستريح ومستراح منه
مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فقال: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ»، فالمستريح الذي وجد الراحة، والمستراح منه الذي تخلص الناس من شرّه، واستراحوا من ظلمه؛ فإن كان هذا الميّت صالحًا، فقد خلص من نصب الدنيا، وإن كان فاجرًا، فقد خلص الناس من شره، وكذلك الدواب والأشجار والأرض خلصت منه، فالمؤمن نتيجةً لسلوكه الإيجابي وفعله الخير يرزق الراحة والغفران والفوز بالجنان، أما الفاجر فقد استراح كل ما في الأرض من سلوكه السلبي وشروره وباء بالخذلان والخسران.
لاتوجد تعليقات