رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 23 فبراير، 2015 0 تعليق

الضَـــــــوابـــِطُ الشَّـــرعِيَـــةُ..في الدِّفاعِ عَنِ النَبيِّ صلى الله عليه وسلم

     النُّصرة الشرعية الممدوحة للنبي صلى الله عليه وسلم  لا تتحقق - على أرض الواقع - إلا بوجود الضوابط الشرعية، والوقوف على المقاصد الدينية، واستخراج الأحكام من الأدلة الصحيحة، واستظهار النتائج من المقدمات العلمية، والاتصاف بالتوسط الشرعي في الأقوال والأعمال، وأن يكون التعامل مع الأحداث خارجاً مخرج الصدق والديانة والأمانة، وأن تعطى الشريعة حقها من الرعاية والصيانة، وهذا - في الواقع العملي والسلوك المنهجي – لا يكون إلاّ بإبراز مناهج العلماء في التأصيل، وإظهار طريقة أهل الحديث في التحقيق، ولزوم منهج الكبار في الاستقصاء والتحرير، وتغليب النفس العلمي في البيان والتقرير، وتعميم لغة الربانين في الخطاب والتوجيه.

التأصيل الشرعي والتكييف الفقهي للنّصرة

في هذا المبحث نشير إلى الجوانب التأصيلية للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأهمها:

أولاً: الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم داخل في حفظ ضرورات الدين

     الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والانتصار له بكل وسيلة شرعية من ضرورات الدين وقواعد الملة وكليات الشرع؛ فلا يُحفظ الدين بمجرّد الإيمان بهذا الرسول واتباعه اتباعاً مجرّدا عن تعزيره ونصرته وتوقيره والذّب عنه وعن سنته صلى الله عليه وسلم ؛ لهذا جاء ذكر النّصرة في القرآن في سياق بيان ضرورات الدين وكلياته؛ كما قال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157)، وقد أخذ الله من النبيين الميثاق بالدفاع عن هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران:81).

      قال الحافظ ابن كثير: «يخبر أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم -عليه السلام-، إلى عيسى -عليه السلام-، لما أتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة، وبلغ أيّ مبلَغ، ثم جاءه رسول من بعده، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته»(1).

     لهذا كان عدم توقير النبي وترك احترامه وعدم مراعاة حقوقه قدحاً في الدين وتضييعاً للمصالح الكلية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أما انتهاك عرض رسول الله فانه منافٍ لدين الله بالكلية؛ فإن العِرض متى انتهك سقط الاحترام والتعظيم، فسقط ما جاء به من الرسالة فبطل الدين؛ فقيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله، وإذا كان كذلك وجب علينا أن ننتصر له ممن انتهك عرضه»(2).

      ولأجل مراعاة ضرورات الدين عَدَّ الشرع الحنيف أي نوع من أنواع انتقاص النبي صلى الله عليه وسلم نازلة جسيمة يجب إلحاقها بأشدّ المحرمات وأعلى الجنايات لما اشتملت عليه من المفاسد العظيمة والأضرار الكبيرة على الإسلام وأهله؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - أيضا-: «لو نزلت بنا نازلة السب وليس معنا فيها أثر يتبع ثم استراب مستريب في أن الواجب إلحاقها بأعلى الجنايات لما عدّ من بصراء الفقهاء؛ ومثل هذه المصلحة ليست مرسلة؛ بحيث ألا يشهد لها الشرع بالاعتبار، فإذا فرض أنه ليس لها أصل خاص يلحق به ولابد من الحكم فيها فيجب أن يحكم فيها بما هو أشبه بالأصول الكلية، وإذا لم يعمل بالمصلحة لزم العمل بالمفسدة، والله لايحبّ الفساد» (3).

     ومن شرط الإيمان بالشيء الدفاع عنه والثبات عليه؛ كما قال: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146).

     قال أبو جعفر الطبري - -: «هلا فعلتم كما كان أهل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم - من المضي على منهاج نبيهم، والقتال على دينه أعداءَ دين الله، على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم - ولم تهنوا ولم تضعفوا، كما لم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلم والبصائر من أتباع الأنبياء إذا قتل نبيهم، ولكنهم صَبروا لأعدائهم حتى حكم الله بينهم وبين أعدائهم»(4).

ثانياً: الانتصار للنبي  صلى الله عليه وسلم  حكم شرعي يوجد عند وجود سببه وتحقق شرطه وانتفاء مانعه.

     الإذن بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم  حكم شرعي له أسبابه وشروطه وموانعه، وهو على أنواع وصور، وله وسائل ومقاصد، وجميعه داخل في معنى الحكم الشرعي؛ فإذا وجد ما يقتضي الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنّ المانع كان أقوى وأولى اعتباراً -كما سنبينها في مبحث الضوابط الشرعية -؛ يكون الإمساك عن الدفع متعيّناً والاحتياط في التوقف أولى وأحرى؛ ويدفع المؤمن وقتئذٍ عن نبيه صلى الله عليه وسلم  بالقلوب الصادقة والأعمال الصالحة والأدعية الخالصة؛ إذ الأحكام الشرعية للنّصرة تتنوع بتنوع المصالح والأحوال والأوقات، وهي تقبل التفاوت والتبعيض والانقسام، ويشتغل الموفق في كل وقت بما هو واجب ذلك الوقت.

ثالثا: الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم  نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله:

     يجزم من له نظر في أدلة الشريعة ومواردها أن الجهاد جنس تحته أنواع، وهو كلمة جامعة لاستفراغ الوسع في مدافعة العدو وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر كالكفار؛ ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس(5).

     ويدخل الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم  بأي وسيلة شرعية كانت في الجهاد الشرعي، بل هو من أعظم أنواعه وأشرف صوره؛ فالمدافع مجاهد في سبيل الله؛ وقد قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)؛ فالآية صريحة في بيان أن من مقاصد الجهاد وإنزال الحديد نصرة النبي صلى الله عليه وسلم .

     قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: «وقوله: {وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه؛ ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد، وتبيان ودلائل، فلما قامت الحجة على من خالف شرع الله بعد الهجرة، أمرهم بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده... وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي: من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسله، {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: هو قوي عزيز، ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض»(6).

     لهذا قرنت الآيات القرآنية بين الجهاد والنُّصرة في غير موضع؛ كما قال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال:74).

     قال الشنقيطي- - في تفسيرها: «فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر، ووصف الفريقين معاً بولاية بعضهم لبعض، وأثبت لهم معاً حقيقة الإيمان {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، أي الصادقون في إيمانهم فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان»(7).

     والجهاد في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما عند تكالب الأعداء والمنافقين على النيل منه ومن سنته درجة عظيمة ومنزلة كبيرة؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«إن نصر رسول الله فرض علينا؛لأنه من التعزير المفروض؛ ولأنه من أعظم الجهاد في سبيل الله، ولذلك قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة:38) إلى قوله {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ}(التوبة:40)، وقال: {) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} (الصَّف:14)؛ بل نصر أحاد المسلمين واجب بقوله: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» (8)، وبقوله: «المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه» (9)؛ فكيف بنصر رسول الله ومن أعظم النصر حماية عرضه ممن يؤذيه:» (10).

رابعاً: التفاضل بين أهل الإيمان يكون تارة بالهجرة، وتارة أخرى بالنّصرة.

للعبد من الفضل والشرف بحسب نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فالتفاوت في مضمار السباق بين المؤمنين يكون بالسبق إلى النُّصرة؛ ولا يتقدم عليها شيء إلا إذا اقترنت بها الهجرة؛ كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} (الأنفال:72).

     وقد جعلت النصوص الشرعية تكميل الإيمان وتحصيل المحاسن والفضائل بالسبق إلى الهجرة والنُّصرة معاً، قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:100).

وعن ابن عباس -ما-: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح،ولكن جِهادٌ ونيّةٌ، وإذا اْستُنْفِرْ تُم فاْنِفِرُوا» (11).

ومعنى: الاستنفار: الاستنجاد والاستنصار: أي إذا طلب منكم النُّصرة فأجيبوا وانفروا خارجين إلى الإعانة. ونفير القوم: جماعتهم الذين ينفرون في الأمر(12).

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «خيرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة فاخترت النُّصرة»(13).

     قال أبو جعفر الطحاوي – بعد أن ساق الحديث بسنده-: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  لو اختار لنفسه النُّصرة وترك الهجرة صار الناس جميعاً أنصاراً، ولم يبق أحد منهم مهاجراً، فلم يجعل نفسه من الأنصار لتبقى الهجرة ولتبقى النصرة جميعاً»(14).

     وقد كان تفضيل بعض الصحابة على بعض على أساس النُّصرة؛ يقول ابن القيم في تفضيل خديجة -رضي الله عنها-: «واختلف في تفضيلها على عائشة -رضي الله عنها- على ثلاثة أقوال ثالثها الوقف؛ وسألت شيخنا ابن تيمية فقال: اختص كل واحدة منها بخاصة فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام وكانت تسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبته وتسكنه وتبذل دونه مالها فأدركت عزة الإسلام، واحتملت الأذى في الله وفي رسوله، وكانت نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها، وعائشة -رضي الله عنها- تأثيرها في آخر الإسلام فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة وانتفاع نبيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها هذا معنى كلامه» (15).

     وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكافئ من نصره ولو كان كافراً كما جاء في السيرة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه، بعث إلى المطعم بن عدي فأجابه على ذلك ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن ادخل؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله.

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل كما أخرج البخاري عن محمد بن جبير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له»(16).

وقد دلّ هذا الحديث على ثلاث فوائد:

أولها: جواز الدخول في جوار الكافر عند الحاجة.

الثانية: أن النبيصلى الله عليه وسلم كان يكافئ المحسن إليه بإحسانه، وإن كان كافرًا(17).

الفائدة الثالثة: أن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم من الإحسان الذي يحفظ للكافر ويكافأ عليه.

ومن هذا النوع من الإحسان أيضًا تخفيف العذاب الأُخروي على الكافر؛ بسبب نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم  ومعونته للدين؛ كما جاء في حديث العباس بن عبد المطلبرضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : «ما أغنيت عن عمك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» (18).

خامساً: الانصراف عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم  مع القدرة التامة شعبة من النفاق.

     الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ونصرة ما جاء به من الحقّ علامة على صدق الإيمان والبراءة من النفاق ودلالة على المحبة الصادقة؛ فليس بمحبٍ على الحقيقة من يتمكن من نصرة محبوبه ثم لا ينصره ولا يتأذى مما يتأذى منه؛ لهذا كانت نصرة الله ورسوله شرطاً في الإيمان وطريقاً لبلوغ الصديقية؛ كما قال: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر:8).

      والصديق لا يكون متحقّقا بالصديقية إلا بالنُّصرة والمدافعة؛ لهذا كان السابقون الأولون عريقين في الصديقية قاموا بأعبائها والتزموا بلوازمها؛ فنصروا نبيهم بكل ما يمكن شرعاً أن يبذل للمحبوب المتبوع؛ فهذا صديق الأمة أبو بكر رضي الله عنه  قد كمّل مرتبة الصديقية بالنُّصرة والهجرة؛ كما في حديث عروة بن الزبير قال: «سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشدّ شيء صنعه المشركون بالنبيصلى الله عليه وسلم ، قال بينا النبي صلى الله عليه وسلم  يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي»، قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (غافر:28) (19).

     وما نال الأنصار من الفضل والسبق والبراءة من النفاق إلا بصدق محبتهم لنبيهم وقوة نصرتهم له بالمال والنفس والعيال والديار؛ فقد بذلوا كل نفيس في سبيل نصرته وتعزيره؛ لذلك جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلم  أنه قال في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منا فق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله» (20).

     أما وقد تقرر أن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم هي من موجب محبته ومقتضاها؛ فإن الانصراف عن نصرته مع القدرة التامة يعدّ شعبة من النفاق؛ إذ لو ثبتت المحبة واستقرت في القلب فلا بد من النّصرة ولو بالقلب عند العجز عن نصرته بالقول والفعل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أيضا-: «فمن لم يكن فيه داعٍ إلى الجهاد فلم يأت بالمحبة الواجبة قطعاً كان فيه نفاق؛ كما قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات علي شعبة من نفاق» (21)، وكذلك جمع بينهما في قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التوبة:19-22)؛ فالجهاد في سبيل الله من الجهد وهي المغالبة في سبيل الله بكمال القدرة والطاقة فيتضمن شيئين:

أحدهما: استفراغ الوسع والطاقة.

والثاني: أن يكون ذلك في تحصيل محبوبات الله ودفع مكروهاته.

 

الهوامش

(1) تفسير ابن كثير (2/67).

(2) الصارم المسلول (2/397)

(3) الصارم المسلول (3/906).

(4) جامع البيان في تأويل القرآن (7/ 264- 265).

(5) انظر: مفردات غريب القرآن، للراغب الأصفهاني ص (108).

(6) تفسير ابن كثير (8/28).

(7) أضواء البيان (8/ 98).

(8) البخاري برقم (2443)، ومسلم برقم (2584).

(9) البخاري برقم (2442)، ومسلم (2580).

(10) الصارم المسلول (2/ 395-396).

(11) رواه البخاري برقم (2631) ومسلم برقم (1864).

(12) النهاية في غريب الحديث (5/ 202).

(13) رواه الطبراني في (المعجم الكبير) برقم (3011)، وأبو نعيم في (معرفة الصحابة)برقم (1739)، والطحاوي في مشكل الآثار برقم(1722).

(14) مشكل الآثار (5/ 49).

(15) جلاء الأفهام (ص234- 235).

(16) البخاري برقم (2970).

(17) انظر: الصارم المسلول، لابن تيمية (2/315).

(18) البخاري برقم (3670).

(19) البخاري برقم (3643).

(20) رواه البخاري برقم (3572) ومسلم برقم (75).

(21) مسلم برقم (1910). 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك