رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 2 نوفمبر، 2014 0 تعليق

فتنة التفرق والاختلاف

ألقى فضيلة الشيخ عبدالرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (فتنة التفرق والاختلاف)، التي تحدث فيها عن الوحدة وأهميتها في حياة الأفراد والأمم، وبين أن الفرقة بين أبناء الوطن لا تجلب إلا الشرور والمفاسد، ولا يصلح ذلك إلا الاعتصام بحبل الله تعالى، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأسدى النصح للإعلاميين والشباب في مواقع التواصل الاجتماعي بالعمل على وحدة أوطانهم وعدم الزج بها في أتون حروب وفتن.وكان مما جاء في خطبته:

أيها المسلمون:

     في هذه الآونة الداكنة التي تلاطمت أمواجها، وامتزج نميرها وأجاجها، وأعنقت فيها الفتن أجيادها، واستصرخت في بعض الأصقاع أجنادها، حتى غدا شأن الأمة في أمر مريج، والحق والباطل - على بعد ما بينهما - في مزيج، تشرئب فتنة من عظائم الفتن البتراء، المنذرة بالمهالك الغبراء، قاصمة دهياء، ومحنة شوهاء.

تلكم - يا رعاكم الله -، هي: فتنة التفرق في الدين بين العباد، وخرق وحدة الأوطان والبلاد. إنها خطب راصد، وبلاء حاصد، ما زحفت أصلالها في مجتمع إلا مزقته شذر مذر.

فهي معول خطير في صرح الوحدة، وشرارة تشعل فتيل الصراعات، وتجلب الفرقة والنزاعات. إنها غمة تجعل أفراد الأمة كضرائر الحسناء، وتزرع فيهم معضلات الأدواء، وتنشر زوابع الشحناء والبغضاء، والله - عز وجل - يقول: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101).

والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: «إن السعيد لمن جنب الفتن»؛ أخرجه أبو داود بسند صحيح.

إخوة الإيمان:

وتلقاء هذه المرحلة العصيبة في الأمة من استحكام الأهواء، والتحزب والتمزع، ونوب التفرق والتعصب والتوزع؛ لزم العودة الجادة إلى أصول شريعتنا البلجاء، والاحتكام إلى ثوابتها الشماء.

ما غاب عن آبائنا قبلنا

                            كيف أساليب رقي البلاد

كلا، ولن تجهل معنى به

                            تكون الوحدة والاتحاد

الوحدة والاتحاد بين أبناء الوطن من مختلف البقاع والوهاد، وهل مجد الأوطان إلا بوحدة بنيه الصادقين الذين نحلوه حبات الفؤاد؛ ليبلغ من مراضي الله القمم والأطواد.

      الوحدة الدينية والوطنية من الضرورات المحكمات، والأصول المسلمات، كما هي من أساس الأمن والاطمئنان، ودعائم الحضارة والعمران؛ بل هي معراج لبلوغ مرضاة الديان، يقول - سبحانه -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، ويقول - جل وعلا-: {أنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13).

يقول الإمام البغوي - رحمه الله -: «بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين، والألفة والجماعة، وترك الفرقة والمخالفة».

وإذا القلوب تآلفت مع بعضها

                            لا بد أن يدركن كل مرادي

ويد الإله مع الجماعة سنة

                            عملت بها الآبا عن الأجداد

أمة الإسلام:

ولن يصد تيار التشدد وأتيه، ولن يقوم معوجه وعصيه إلا لحمة الاتحاد والتلاحم، والترابط والتراحم، وتقديم مصلحة الأوطان على هوى النفوس؛ فمحبة الأوطان فطرة الديان.

فلنحتف ولنلتف حول الوشيجة الدينية، والآصرة الوطنية التي لا تشاد ولا تستكر، ولا ترسو ولا تستقر إلا على أصول وحدتنا الإسلامية.

فاجعلوا الوحدة درعا لكم

                            إنما الدارع لا يخشى السهاما

وخذوا العبرة من تأريخكم

                            كيف آل الأمر بالناس انقساما

لا يسوس الأمور شعب لم يكن

                            من رضاع التأريخ جاز الفطاما

إخوة الإسلام:

ومن الفواقر التي كشفت عن خبو الوحدة الوطنية لدى رهط من الناس: ما أقدم عليه طغمة باعوا دينهم ووطنهم بلعاعة من نشب، وهتكوا حرمة الإباء الأصيل النسب.

وتلك شيمة من كانت بصيرته

                            أدنى إلى السقط لا حس ولا خجل

فجاسوا بالخيانة، وطرائق التخابر المريعة والتجسس الشنيعة، فجاؤوا أمرا إدا بعد أن أظهروا ولاء وودا، ولكن - بحمد الله - قد فضح الله أسرارهم، وهتك أستارهم.

من يزرع الدس كأسا غير مكترث

                            بالمر فيه مذاقا غير ذي طعم

يلقى الهوان ويرضى كل مخزية

                            فيه غير حس ولا نبل ولا كرم

     ومن الخديعة للوحدة الوطنية، والنحت لأثلتنا الأبية: ما يعرف اليوم بالتغريب؛ قل في أكثره: النعيب والنعيق، والهشتقة والهرطقة التي تضج بها الوسائل والمواقع التواصلية، والشبكات العنكبوتية، إيقادا للفتن والإرجاف، وإذكاء للشرور والإسفاف، وإصلاتا لعضاب الفرقة بالجرأة والاعتساف. نقضا لمحكمات الألفة والاتحاد، وشرخا في صميم الولاء والوداد.

يقول - عز وجل -: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } (التوبة:47)، ولكن لن تزيد ألسنة المكر واللهب الواثقين الصادقين إلا اعتصاما بالحق ورسوخا، وتوكلا على الله وشموخا.

اللفظ من سيوف صقلت

                            ومن القنى بين الضلوع ينشر

واعلم بأنك إن قلبت حقيقة

                            ستلوث الأوطان بل ستتبر

     وآخرون يمموا وجوههم تلقاء أفكار دخيلة عن سواء الحق جانحة، وسداد العقل وحصافته جانحة، حاشدين في كنانتهم المشروخة سهام الاتهامات الباطلة، وأسلات الأحكام الجزاف العاطلة، والدعايات التشهيرية المسمومة، والاختلاقات الرعناء المزعومة. وقد دروا - وبئس ما دروا - أنهم عن وشيجة الولاء واللحمة الوطنية قد مرقوا، ولوحدة الأمة قد خرقوا.

وإن الكيس العاقل هو من يحفظ عقله عما يبث من الأفكار الخادعة، فلا يسلمه للأهواء المفرقة القاذعة، والآراء المشتتة الصادعة، ويفعل الحس الوطني في إطار ثوابت الدين وهدي سيد المرسلين وصحابته الغر الميامين.

     وإن أولي الألباب لا يؤلهون العقول فتنبو بهم عن المعقول، ولا يفهمون قول الصنيع الفهم الشنيع؛ بل فهما رفعيا، ولا يخلطون نجيعا ورجيعا، لا سيما بعدما استعصى الفتق على الراقع في وسائل التواصل الاجتماعي، وصكت الأسماع وزاغت الأنظار بالتياع لنعيق متكرر، تنعى معه الأحلام والنهى، وتداس فيه المروءات وتذهب الحجى، بما يخرق سياج وحدة الأمة الدينية والوطنية.

فليتق الله المغردون والمتوترون المتوترون فيما يقولون ويكتبون.

وإن تعجبوا - يا رعاكم الله - فعجب أن يتوشح كثير من هؤلاء بعباءة الغيرة على الدين والأوطان، والنصح والإصلاح، والمطالبة بالحقوق وحرية التعبير - زعموا -.

فيا لله! حينما يغلب الهوى على طريق الهدى لاستمالة الدهماء بالتأليب واللغط والضجيج، والتشويش والجدل والعجيج.

ألم يأن الأوان أن تستثمر هذه الوسائل والتقانات لما يحقق مصالح الدين والوطن والمجتمع؟! وتصدر عن خطاب متزن يدرأ المفاسد، ويعتبر الآثار والمآلات، بدل أن تسلط معول هدم لتماسكها، وطعنات نجلاء في خاصرتها.

وفئام باعت دينها بدنيا غيرها فسارت في دروب التجسس والخيانة، وأرخصت الذمام والضمير والديانة، في صنيعة شنيعة تخدم أجندة الأعداء، ودمية وضيعة في أيدي الألداء. فبئس القوم هؤلاء الذين تنكروا لوطن احتواهم، وبلد احتضنهم وآواهم، فلما اشتدت سواعدهم رشقوه بسهامهم ونبلهم عقوقا وجحودا.

     وآخرون سلكوا مسالك الدمار والهلاك في ترويج المخدرات لتدمير حياة الشباب والمخدرات، ولا يزال رافعو راية الشقاق، ودعاة الفتنة النزاق سادرين في غيهم ببث بذور الفرقة والتصنيفات، ورفع شعارات المذهبية والطائفيات، بما يدق أسافين خطرة تخرق سفينة المجتمع، وتهز ولاء أبنائه، وتفرق الجمع النظيم والشمل الكريم.

فيا أيها المرجفون! رويدكم رويدكم. ويا أيها الموجفون بشدى تغريداتهم وأقوالهم! اربعوا على مجتمعاتكم وأوطانكم قبل أن يحصل الندم ولات ساعة مندم، وخذوا من الغير الدروس والعبر. فهل من معتبر ومدكر؟!

وكم أناس دروب الشر تحضنهم

                            وقد ترى بشرا صما وعميانا

فمن تدرع بالسوءات زاد هوى

                            وزاد من نكسة العصيان نيرانا

ومن البلية عذل من لا يرعوي

                            عن غيه وخطاب من لا يفهم

{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30).

معاشر الأحبة:

     ومهما يكن من نبل العاطفة الإسلامية في نشدان الحق والخير والمغانم، والخروج من المظالم والمغارم مع التسليم بشرعيتها وأحقيتها إلا تُزَّم بالضوابط الشرعية، وقواطع الكياسة والعقل والحكمة الجلية ظلمت وأساءت، وأفسدت كل مراد، وانتجعت الحسك والقتاد. فكم من مريد للحق لم يصبه، والله المستعان.

     وما القصد والمراد - يا رعاكم الله - إلا النأي بأمتنا وسامق وحدتنا وبديع ألفتنا عن فجاج العثار، والشفا الجرف الهار، فها هي أمتنا الإسلامية تعصف بها رياح الفتن الهوجاء وقواصف الخلف السحماء، ولا معدى عن إقامة مجتمع باسق متعاضد مؤسس على أصلب دعائم الصدق والوفاء، وأمتن أركان الجماعة والسمع والطاعة.

ديدننا وهجيرانا: إن تدابر الناس تعانقنا، وإن تناثروا ترافقنا، وإن تخالفوا تناصرنا، وإن تقاطعنا تواصلنا، وإن ضنوا تآثرنا.

تلكم - لعمري - أنماط لوحدتنا

                            فهل ترانا لصوت الحق نمتثل

فنكتب اليوم للتأريخ ملحمة

                            تفيض حبا وتيها إنه أمل

ألا فلنترك محدثات الأمور وشكلاتها، ولنتحصن من قرحها وعلاتها، فما هكذا تورد الإبل ولا تؤتى السبل، ولنتمثل قول ربنا - جل في علاه -: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 31، 32).

في «سنن أبي داود» عن جبير بن مطعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية».

وإن كتاب الله أعدل حاكم

                            فيه الشفا وهداية الحيران

والحاكم الثاني كلام رسوله

                            ما ثم غيرهما لذي إيمان

وبعد، معاشر الأحبة الأكارم:

إنها ذكرى للذاكرين، وهتفة لتنبيه الغافلين أن تمسكوا بالتلاحم والتراحم، والثبات على صراط الله المستقيم، فتلكم - وربي - قاعدة الفلاح الرصينة، وقلعة الأمن والسؤدد الحصينة.

يقول - سبحانه -: {ولاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105).

إخوة الإيمان:

     التحدث بالنعم من أداء واجب شكرها، وفي آي التنزيل الجليل الأمر بذكرها ونشرها، وهذه الديار الآمنة المطمئنة ذات الوحدة الوطنية والالتفاف، والرخاء المديد الأطراف بوأها الله - جل جلاله - في العالمين الفرادة والخصوصية، والامتياز والاستثنائية، بما سنمها من المكانة القدسية العلية، وشرفها بوجود الحرمين الشريفين السنية، وكرمها بالولاة الميامين والعلماء الربانيين، حتى سمت عن أدواء الخلف والشقاق، ورست فيها ركائز الولاء والوفاق.

ومن بالسوء رامها اجتث الباري أصله، وفل نصله. أليس لها في كل قلب مؤمن محبة متجذرة مستورة؟! وفي كل صفحة من التأريخ بطولة منشورة؟! وفي سائر أمجادها أفنان مضوعة منظورة؟!

أرض لها في المكرمات عراقة

                            مشهودة والمجد فيها مختزن

بيت الحضارة والكرامة والنهى

                            من غابر التأريخ والأزمان

الأمن والإيمان صوت ضميرها

                            والعدل نبض الح في الميزان

     لذلك فإنها لا تزال محسودة، وبالأذى والاستهداف دوما مقصودة، فبين أرعن ضحل المروءة والهمة، خافر للجماعة والذمة، يزين الباطل للتفريق، ويشوه الحق للتمزيق، لا يتورع عن البهتان والضلال، والكذب والانتحال، والتمويه والاحتيال. وبين متشبع بأفكار دخيلة هوجاء، وآراء هزيلة عوجاء، ومسارب كالحة رعناء، يتقلب الدهماء والغوغاء.

فلم يتعلقوا من السداد بنفحة، ولا من نور الحق بصفحة؛ فمن تعلق بعلاق، وجدحت له يد الإملاق، وإنهاء المعاشرة ببت وطلاق؛ فليتق الله في نفسه وماله وأهله ووطنه.

إن المسلم الصالح يقتضيه صلاحه الوفاء للوطن، وصونه عن الفتن والمحن، والصدق في السر والعلن، وأن يتحلى بثقافة الحوار والائتلاف، والترابط والبعد عن الاختلاف، وتجنب مقيت الحزبيات، وآسن العصبيات.

     وإن من حق أوطاننا أن نكون بتحقيق مصالحها سعاة، ولدرء المفاسد عنها دعاة، ولأمنها ورخائها واستقرارها حماة، ولوحدة شرائحها وأطيافها رعاة. وما كان من الفرطات النادرة من بعض الأغمار والأغرار فدون القياس والتعميم، ودون الفضل السابغ العميم، ولن يخدش منها شم عامرها، وأنى يرنق - بفضل الله - سلسال غامرها.

     وإنا لنرسلها مكررة محبرة مقررة مكبرة: أن رسخوا دلالات الوحدة الدينية والوطنية، ومفاهيمها الصحيحة المنجحة الربيحة في نفوس أبناء الأمة دينيا وعلميا وثقافيا وإعلاميا وفكريا، ومهنيا واجتماعيا، وائتلفوا على الحق نعم الإخوة والخلان، وعلى الكمال والجلال في وداد واطمئنان، تفوزوا بمجد الأوطان، وفي الأخرى بأعالي الجنان.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك