
لذة العبادة
ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة، التي تحدَّث فيها عن (لذة العبادة)، مُبينًا صورَها في شهر رمضان المبارك، في الصيام والقيام، وفي الذكر وقراءة القرآن، وفي سائر العبادات، كما أشار إلى اللذة العُظمى والنعيم المقيم يوم القيامة بالنظر إلى وجه الله الكريم، ذاكرًا السبل التي بها يصِل العبد إلى هذه اللذات، وكان مما جاء في خطبته:
يتلذَّذ الناسُ بما يتلذَّذون به، ويستمتِعون بما يستمتِعون به، غيرَ أن تلك اللذائِذ زائلةٌ فانيةٌ؛ بل منها ما ينقلِبُ إلى حسَرات، واللذَّةُ الحقيقية هي اللذَّةُ المعنويَّة، لذَّة القلوب، لذَّة العبادة التي تجعل المُسلمَ في أعلى درجات السعادة واللذَّة.
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «ذاقَ طعمَ الإيمان من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحمَّدٍ رسولاً».
أخبرَ صلى الله عليه وسلم أن للإيمان طعمًا، وأن القلبَ يذوقُه كما يذوقُ اللسانُ طعمَ الطعام والشراب.
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان».
الإيمان له حلاوةٌ ولذَّة يسعَدُ بها القلب، وتطمئنُّ النفسُ، وتأنَسُ الروح. وبهذه اللذَّة يجنِي العبدُ الثمارَ الحقيقية، والسعادةَ الأبديَّة. بهذه اللذَّة يصلُحُ القلب ويُفلِحُ ويُسرُّ ويَطيبُ، ويطمئنُّ ويسكُن، ولو حصلَ له كلُّ ما يلتذُّ به من المخلوقات.
لكل ملذوذٍ في الدنيا لذَّةٌ واحدةٌ ثم تزُول، إلا العبادة لله - عز وجل -، فإن لها ثلاث لذَّات: إذا كنتَ فيها، وإذا تذكَّرتَ أنك أدَّيتَها، وإذا أُعطيتَ ثوابَها.
والقلبُ إذا ذاقَ طعمَ عبادة الله والإخلاص له لم يكن شيءٌ قطُّ عنده أحلَى من ذلك، ولا أطيَب ولا ألذّ، ولمحبَّة الله والتقرُّب إليه بما يحبُّه لذَّةٌ تامَّةٌ للقلوب، وسرورٌ لا ينقطِع.
قال أحدُ السلف - وهو يذوقُ لذَّة العبادة والطاعة ومُتعة المُناجاة -: «لقد كنتُ في حالٍ أقولُ فيها: إن كان أهلُ الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيشٍ طيبٍ».
وقال آخرُ - يصِفُ سرورَ القلب ونعيمَه بالإيمان -: «لتمرُّ على القلب أوقاتٌ يرقصُ فيها طربًا وليس في الدنيا نعيمٌ يُشبِهُ نعيمَ الآخرة، إلا نعيمَ الإيمان والمعرفة».
كان صلى الله عليه وسلم يجِدُ راحةَ نفسه، وقُرَّة عينه في الصلاة، ويقول: «وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصلاة».
وفي قيام الليل لذَّة يجِدُ طعمَها رُهبانُ الليل ويصِفون حلاوتَها. قال أحد السلف: «إني لأفرحُ بالليل حين يُقبِل، لما يلتذُّ به عيشي، وتقرُّ به عيني من مُناجاة من أحبُّ، وأغتمُّ للفجر إذا طلَع، لما أشتغلُ به بالنهار عن ذلك».
ولقراءة القرآن لذَّة وجمال، وسُرورٌ وجلال، كلامُ الله يُتلَى على الألسُن، ويطرُقُ الآذان، فتخشع النفوسُ، وتلينُ القلوب، وتسكُن الجوارِح؛ خشيةً وخشوعًا، حبًّا وحبورًا. ولا شيءَ عند المُحبِّين أحلى من كلام محبوبِهم؛ فهو لذَّة قلوبهم، وغايةُ مطلوبهم.
وكيف يشبعُ المُحبُّ من كلام من هو غايةُ مطلوبه؟! يقول عثمانُ بن عفان - رضي الله عنه -: «لو طهُرت قلوبُكم لما شبِعَت من كلام الله».
وفي الإنفاق لذَّةٌ وجد حلاوتَها أبو الدحداح - رضي الله عنه -، حين أنفقَ أنفسَ ماله، وأغلَى ما لدَيه، وجعله في سبيل الله، ثم جاء إلى امرأته، وقال: يا أم الدحداح! اخرُجي من الحائِط؛ فإني قد بعتُه لله. فقالت: ربِحَ البيع!
فخرجَت من مزرعتها فرِحَةً مسرورةً، فقد أبدلَها الله - تبارك وتعالى - أجرًا جزيلاً، ولذَّة إنفاق، وحلاوةَ إيمان تجعلُ القلبَ يرقصُ فرحًا وهو يبذلُ أغلى ما يملِك.
أما أربابُ العلم، وحُرَّاسُ الدين، المُشتغِلون بالعلم وتحصيلِه، فإنهم يسهَرون الليل، ويستسهِلون الشدائِد؛ لما يجِدون من لذَّة طلبِ العلم، بل مكثَ بعضُ السلف أربعين سنةً في تصنيف كتابٍ.
بالعلم ولذَّته يترقَّى المُتعلِّم مدارِج الفضل ودرجات الكمال، ولولا جهلُ الأكثرين بحلاوة هذه اللذَّة وعِظَم قدرِها لتجالَدوا عليها بالسيوف، ولكنَّها حُفَّت بحجابٍ من المكارِه، وحُجِبُوا عنها بأسوارٍ من الجهل؛ ليختصَّ الله من شاءَ من عباده بالفضل العظيم.
واللذَّةُ في الذكر - عباد الله - روحٌ وريحانٌ، ولهذا سُمِّيَت مجالِسُ الذكر برياضِ الجنَّة، وما تلذَّذ المُتلذِّذون بمثلِ ذكر الله - عز وجل - فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مؤونةً، ولا أعظمَ لذَّةً، ولا أكثرَ فرحةً وابتِهاجًا للقلبِ من الذكر.
قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}(الانفطار: 13).
هذا النعيم لا يختصُّ بيوم المعاد فقط؛ بل هؤلاء في نعيمٍ في دُورِهم الثلاثة، وأيُّ لذَّةٍ ونعيمٍ في الدنيا أطيبُ من برِّ القلب وسلامة الصدر، ومعرفة الربِّ - تبارك وتعالى - ومحبَّته.
وإن من العقوبة والحِرمان، والألَم والخُسران أن يُحرَم العبدُ لذَّة الطاعة والعبادة.
ذكر ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - أن بعضَ أحبار بني إسرائيل: «يا رب! كم أعصيكَ ولا تُعاقِبني!»، فقيل له: كم أُعاقِبُك وأنت لا تدري؟! أليس حرمتُك حلاوةَ مُناجاتي؟!
وسُئِل أحدُ السلف: أيجدُ لذَّةَ الطاعة من يَعصِيه؟ قال: «ولا من همَّ».
قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: «إذا لم تجِد للعمل حلاوةً في قلبِك وانشراحًا فاتَّهِمه؛ فإن الربَّ تعالى شكور».
قال ابن القيم: «يعني: أنه لا بُدَّ أن يُثيبَ العاملَ على عملِه في الدنيا من حلاوةٍ يجِدُها في قلبِه، وقوَّة انشِراح، وقُرَّة عين؛ فحيثُ لم يجِد ذلك فعملُه مدخول».
واللذَّةُ الدائمةُ - عباد الله -، اللذَّة الدائمة المُستقرَّة التي لا يشُوبُها كدَر، ولا يعقُبُها ألم، ولا يُنقِصُها همٌّ ولا غمٌّ: لذَّة الدار الآخرة ونعيمُها، فهو أفضل نعيمٍ وأجلُّه، {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}(يوسف: 57).
واللذَّة الكبرى والنعيمُ المُقيم: لذَّة النظر إلى وجه الكريم - تبارك وتعالى -، ولهذا كان دُعاء النبي صلى الله عليه وسلم : «وأسألُك لذَّة النظر إلى وجهِك، والشوقَ إلى لقائِك، في غير ضرَّاء مُضرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضلَّةٍ».
وفي رمضان نعيمٌ لا يُجارَى، ولذَّةٌ لا تُبارَى، تغمُرُ القلبَ حلاوة، فيمتلئٌ فرحةً بالطاعة وطربًا لها. فيه تدبُّر القرآن وروحانيَّةُ الصيام والقيام، وروعةُ الخلوَة والمُناجاة.
في رمضان يرِقُّ القلب، وتدمعُ العين، وتسكُن الجوارِح.
رمضان يُعيدُ للقلب والجوارِح صحَّتَها التي سلَبَتها شواغلُ الدنيا وصوارِفُ الحياة، ويُصفِّي النفسَ من الشوائِب والأدران.
ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوِصال، قالوا: فإنك تُواصِل، قال: «أيُّكم مِثلي؟ إني أبيتُ يُطعِمُني ويَسقِين».
قال ابن القيم - رحمه الله -: «إن المُراد به: ما يُغذِّيه الله به من معارِفه، وما يُفيضُه على قلبِه من لذَّة مُناجاته، وقُرَّة عينه بقُربه، وتنعُّمه بحبِّه، والشوق إليه، وتوابِعُ ذلك من الأحوال التي هي غذاءُ القلوب، ونعيمُ الأرواح، وقُرَّة العين، وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظمُ غذاءً وأجودُه وأنفعُه. وقد يقوَى هذا الغذاءُ حتى يُغنِيَ عن غذاءِ الأجسام مُدَّةً من الزمان».
لاتوجد تعليقات