رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: سحر شعير 8 أغسطس، 2019 0 تعليق

وفديناه بذبح عظيم


في رحاب العشر الأوائل من ذي الحجة وموسم الحج الأكبر، تلك الأيام العظيمة التي تتعدد فيها فضائل الأعمال، وبراهين توحيد رب العالمين من عباده المخلصين، تبرز كل عام ذكرى الفداء العظيم مع عبادة ذبح الأضاحي في أول أيام عيد الأضحى المبارك، تلك السُّنة المباركة التي ورثها المؤمنون عن أبيهم إبراهيم -عليه السلام-؛ فقد جعلها الله -تعالى- نسكًا خالدًا في شريعة الإسلام إلى يوم القيامة، ولأن عيد الأضحى يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقصة الذبيح إسماعيل -عليه السلام- وما فيها من دروس مستفادة وعبر تربوية؛ لذلك يجدر بالمربي الحريص على استغلال الأحداث والمناسبات الدينية أن يقصّ على أبنائه قصة الفداء العظيم، ويستخرج منها الدروس المستفادة ليعلمها لأبنائه في جلسات أسرية دافئة.

وإليكم أهم هذه الفوائد التربوية من القصة التي خلدها الله -تعالى- في كتابه المجيد، وفي أداء المسلمين لعبادة ذبح الأضاحي لله -تعالى- من كل عام:

جلسة عائلية دافئة

     قبيل قدوم العيد، وفي جلسة عائلية دافئة، يبدأ الأب – أو الأم – بتلاوة الآيات الكريمات التي وردت فيها هذه القصة العظيمة، وهي الآيات 110:102 من سورة الصافات، مع توضيح معاني غريب الألفاظ بأسلوب ميسر يناسب فهم الأبناء ومتمشيًا مع مرحلتهم العمرية، ثم يتناول الأب أهم الدروس التي أراد الله -تعالى- أن يعلمها لعباده المؤمنين من هذه القصة:

تحصين الأبناء

     وهذه من أهم قواعد التربية الإيمانية للأبناء، التي لو نجح المربي في غرسها وتوصيلها للأبناء مبكرًا لانتفعوا بها مدة حياتهم، ولتكونت عندهم حصانة نفسية ضد اليأس والاكتئاب الذي قد يصيب الشباب الصغار عند مواجهتهم لأي ابتلاء في بواكير أعمارهم؛ فالله -تعالى- يحب عباده المؤمنين ولا يريد أن يعذبهم أبدًا ما داموا مستقيمين على طاعته، قال -تعالى-: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (147).

المقصود من الابتلاء

     كان المقصود من الابتلاء لنبي الله إبراهيم في قصة الفداء إظهار عزمه وإثبات علوّ مرتبته في طاعة ربّه؛ فإن الولد عزيز على نفس الوالد، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشدّ معزّة على نفسه لا محالة، وقد رزقه الولد بعد أن يئس هو وزوجته منه، وبعد أن أقرّ الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه وذلك أعظم الابتلاء..!

الحكمةُ من القصَّة

     وهنا تتجلَّى الحكمةُ من القصَّة؛ وذلك أنَّ أَصْلَ التَّوحيدِ بل لبّه وروحه هو محبّةُ اللهِ -تعالى-، وأن المؤمن الصادق لابد أن يقدم محبة الله -تعالى- على أي محبة، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «ولما اتَّخذه ربُّه خليلاً، والخَلّة هي كمال المحبَّة، وهي مرتبة لا تَقبَلُ المشاركةَ والمزاحمةَ،وكان قد سأل ربَّه أن يهَبَ له ولدًا صالحًا، فوهَب له إِسماعيلَ، فأخذ هذا الولدُشعبةً من قلْبه، فغار الخليلُ على قلب خليلِه أن يكونَ فيه مكانٌ لغيرِه، فامتحَنَه بذَبْحِه ليظهرَ سرُّ الخَلّة في تقدِيمه محبّةَ خليلِه على محبَّةِ ولدِه، فلمَّا استسلم لأمر ربّه، وعزم على فعله، وظهر سلطان الخَلَّة في الإقدام على ذبح الولد إيثارًا لمحبَّة خليله على محبّته، نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذِّبح العظيم؛ لأنَّ المصلحة في الذَّبح كانت ناشئةً من العزم وتوطين النَّفس على ما أمر به، فلمَّا حصلت هذه المصلحة، عاد الذَّبح مفسدة، فنُسخ في حقِّه، فصارت الذَّبائح والقرابين من الهدايا والضَّحايا سُنَّة في اتّباعه إلى يوم القيامة» (جلاء الأفهام:274).

السمع والطاعة لأمر الله -تعالى

     فإسماعيل -عليه السلام- يعلم في صغره بأن رؤيا الأنبياء حق، وأن رؤيا الأنبياء في المنام من الوحي فقال:{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، يعني ما يأمرك الله به وهذا يفيد بأنه تلقى تربية إيمانية كاملة وواضحة من صغره حتى ثبت في يقينه أن الله -تعالى- لا يأمره إلا بما يصلحه في الدنيا والآخرة، حتى لو كان فيه بعض المشقة، فقد استسلم إسماعيل لطلب والده على الرغم من صعوبته صابرًا مطيعًا لأمر الله -تعالى-: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ( الصافات:102)

لابد أن يأتي الفرج بعد الشدة

     وهذه أيضا من سنن الله -تعالى- في الابتلاء، بأن العاقبة للمتقين، وأن النصر يأتي مع الصبر، والفرج بعد الشدة، وأن مع العسر يسرا، فعندما يطيع الإنسان ربه أو يطيع الابن والديه في أمر يكره فعله فإن الله يعوضه خيرا: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات:104-107)، فنال إبراهيم جائزة فورية نتيجة نجاحه في الاختبار، ونال إسماعيل كذلك جائزة فورية أخرى بنزول الكبش نتيجة بره لوالده.

     ثم رفع الله ذكرهما في العالمين، جزاءً وفاقًا كما رفعوا أمر الله -تعالى- فوق مشاعرهم الفطرية، وفوق جبلتهم الإنسانية من التعلق الشديد بين الأب وابنه، فلا يزال المؤمنون يذكرونهم بالخير والثناء الحسن كلما ذكروا القصة العظيمة، وكلما تلوْا كتاب الله -تعالى-، وكلما تجددت عليهم سنة ذبح الأضاحي في يوم النحر من كل عام.

طاعة الله -تعالى

     طاعة الله -تعالى- تجلب الخير والبركة للمؤمن؛ فقد تتابع كرم الله -تعالى- على خليله إبراهيم -عليه السلام-: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات:111- 113)، فمن يصبر على أوامر الله -تعالى-؛ فإن الله يغدق عليه بكرمه أكثر مما يطلب أو يتوقع، فكان من كرم الله -تعالى- أن رزقه بولد آخر نتيجة صبره وطاعته ونجاحه بالاختبار، ليسعده وتقر عينه بولد آخر وهو إسحاق -عليه السلام.

     ثم بارك الله في إبراهيم -عليه السلام- وذريته؛ بسبب طاعته ونجاحه في الابتلاء، فبارك في ذرية إسماعيل وكان منها رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم-، وكذلك بارك في ذرية إسحاق؛ فكان منها نبي الله يعقوب ويوسف -عليهما السلام-، وهذا وعد من الله لكل من سار على نهجهما في صدق المحبة وإخلاصها لله -تعالى- وتقديم أوامره على النفس والمال والولد، قال -تعالى-: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (الصافات:110).

فائدة مهمة للمربين

     يستفيد المربي من هذه القصة أن يستلهم علاقة الصداقة التربوية التي تربط بين خليل الله إبراهيم وولده إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-؛ حيث تبدو معالمها واضحة من الحوار بين الأب وابنه، ويظهر بوضوح أن العلاقة بين إبراهيم -عليه السلام- وولده علاقة قوية، ففضلا عن أنها علاقة نسب إلا أنها تشتمل على علاقة صداقة، وهذه التي يصعب على كثير من الآباء تحقيقها مع أبنائهم ولاسيما في مرحلة المراهقة، وهو العمر نبي الله إسماعيل وقت وقوع هذه القصة، قال -تعالى-: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، ويعني (بلغ السعي) أي صار يسعى ويمشي مع والده ويقضي معه حوائج الدنيا، ومن هنا نستدل على أن العلاقة كانت علاقة تجاذب لا تنافر بينهما.

لغة الحوار التربوي

     كما يبدو واضحًا اعتماد لغة الحوار التربوي بين الأب وولده وكأنه يشاوره، قال -تعالى-: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، فعلى الرغم من أن إبراهيم -عليه السلام- تلقى أمرًا بالذبح من الله -تعالى-، إلا أنه استشار ابنه الصغير وأخذ رأيه بقوله: (ماذا ترى؟!)، وهذه لفتة تربوية مهمة بأن نتحاور مع أبنائنا حتى في الأمور المسلمة والمفروضة التي أمرنا الله بها؛ لأن الأبناء ولاسيما في سن المراهقة يرون الحوار معهم احترامًا وتقديرًا بينما يكرهون الفرض والإجبار.

تسلية لكل مؤمن

     إنّ في قصة الفداء العظيم تسلية لكل مؤمن أصيب بنوعٍ من الابتلاء العائلي؛ حيث قال -تعالى- عنه: {إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} (الصافات:106)؛ لأن إبراهيم -عليه السلام- لم يرزق بولد حتي بلغ عمره 86 سنة، ثم رزق بإسماعيل الذي جاء بعد طول انتظار، وكان وقتذاك ولده الوحيد، فلما جاء وتعب على تربيته أمره الله بذبحه، والأصعب من هذا الأمر أن يكون الذبح بيد أبيه الذي انتظره نيفًا وثمانين سنة، فهذا بلاء عظيم؛ فلما نجح في الاختبار والابتلاء كافأه الله -تعالى- ففدى ابنه بذبح عظيم، وصارت سنة ونسكًا للمسلمين إلى قيام الساعة حتى يتعلموا معاني الصبر على البلاء والسمع والطاعة لأوامر الله -تعالى-، وأن في عاقبتها خير عظيم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك