رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 4 نوفمبر، 2018 0 تعليق

موقف المنهج السلفي من الخلاف الفقهي

  قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله»؛ فهما مصدر التشريع لهذه الأمة؛ ولذا فقد كان المنهج السلفي قائمًا على العودة بالأمة إليهما، وطرح كل قول يخالفهما، وقد حرص المعاصرون من علماء المنهج السلفي على ذكر الدليل على ما يفتون به رغم أن هذا لا يلزمهم؛ وذلك حرصًا على العودة بالناس إلى تعظيم الكتاب والسنة مرة أخرى، ومع انتشار هذه الفتاوى اتُهمت السلفية بأنها تتعمد إخفاء الخلاف بين الأئمة في فتاويها، فتتبنى قولاً واحدًا لا تفتي إلا به.

  

وهذا الاتهام صادر من طائفتين:

- الأولى: الذين وقعوا تحت ضغط الواقع، فأرادوا أن يجدوا من بين الأقوال ما هو أنسب لظروفهم وأحوالهم، متعللين بأن في الخلاف سعة، وأن الأمة ما دامت قد اختلفت فلا حرج أن نأخذ من الأقوال في هذا الخلاف ما يناسب ظروفنا وأحوالنا، مستدلين بالحديث المكذوب «اختلاف أمتي رحمة»

- الثانية: هم بعض العوام الذين هالهم ما يذكره أصحاب المذاهب من نُقولٍ عن أئمتهم، وقد ظنوا أن فتاوى العلماء التي استدلوا فيها بالكتاب والسنة، محل إجماع بين العلماء؛ فلما ظهر لهم أن فيها خلافًا بين العلماء، ساء ظنهم بمن أفتاهم من علماء المنهج السلفي.

أتباع المذاهب

     وقد زكى هذا الاتهام: طائفة من أتباع المذاهب، الذين يرون في المنهج السلفي عدوانًا على المذاهب؛ فصاروا لا همَّ لهم إلا إبراز الأقوال التي تخالف ما انتشر من فتاوى علماء المنهج السلفي؛ ليدللوا بذلك على أن أصحاب هذا المنهج لا يتبعون الأئمة، وأنهم يُحَجِّرون على الناس واسعًا.

العلمانيون

وقد تلقف هذا الاتهام طائفة من العلمانيين، وأشاعوه؛ لأنهم رأوا فيه فرصة؛ لأن يكون خطوة في طريق الانحلال من سلطان النص.

     ومع سهولة نشر أي شيء عبر وسائل التواصل الحديثة، وعدم التفرقة بين مقام الإفتاء ومقام التعليم، انتشرت هذه التهمة ولاقت رواجًا بين كثير من عوام هذا المنهج، هذا كله وغيره يدعونا لنتناول في هذا المقال موقف المدرسة السلفية من الخلاف الفقهي فيما يخص المكلف، وفيما يخص المفتي، ونبين أن هذا المنهج هو في الحقيقة منهج أئمة المذاهب أنفسهم وغيرهم من الأئمة على مر العصور، وذلك في ما يلي.

الموقف السلفي

أولًا: بيان الموقف السلفي من الخلاف الفقهي بين الأئمة،وذلك في النقاط التالية:

 (1) يقع الخلاف على نوعين: خلاف التنوع، وخلاف التضاد

خلاف التنوع

- فخلاف التنوع: هو ما لا يكون فيه أحد الأقوال مناقضًا للأقوال الأخرى، بأن يكون كل واحد من القولين مشروعًا، أو بأن يكون كل من القولين في معنى الآخر، لكن العبارتين مختلفتان، أو بأن يكون القولان متغايرين، لكنهما غير متنافيين، مثل الاختلاف في صيغ التشهد الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا النوع من الخلاف لا إشكال في المصير إلى أحد القولين؛ لأنه لا تضاد في الحقيقة.

خلاف التضاد

- أما خلاف التضاد: فهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد القول الآخر؛ فما يحكم القول الأول بصحته يحكم القول الثاني بخطئه، وهذا النوع على قسمين:

- الأول: الخلاف غير السائغ وهو المذموم، وهو كل ما خالف نصًّا صريحًا من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي، وهذا النوع يحرم المصير إليه لمن علمه، وينكر على من وقع فيه.

- والثاني: الخلاف الذي يسوغ، وهو ما ليس بمذموم.

وهو ما لم يكن كذلك بأن كان له وجه من الأدلة، وهذا النوع يجب على المكلف فيه أن يتحرى الحق قدر طاقته؛ وذلك بأن يجتهد إن كان أهلًا للاجتهاد، أو يقلد إن عجز عن الاجتهاد، ولا ينكر على المخالف؛ لأنه اتبع الحق في ظنه.

اختيار الأقوال

 (2) ليس معنى كون الخلاف سائغًا أنه يجوز للمكلف أن يختار من الأقوال ما يشاء؛ لأن هذا المكلف لا يخلو من أن يكون مقلدًا؛ فيلزمه أن يعمل بما أفتاه به المفتي، وإما أن يكون طالب علم مميز أو عالم؛ فيلزمه أن يتبع القول الذي يراه صحيحًا من وجهة نظره، ولا يجوز له أن يفتي بخلاف ما يعتقده صحيحًا.

(3) لا يجوز للمفتي أن يقول للمستفتي: إن هذه المسألة فيها خلاف، أو إن أقوال العلماء في هذه المسألة كذا وكذا ويتركه يختار ما يشاء من الأقوال؛ لأن المستفتي إنما يسأل عن حكم الله -تعالى- في المسألة، والمفتي لا يحل له أن يفتي بغير ما يرى أنه الحق.

     لكن لو كان الخلاف سائغًا جاز للمفتي أن يمتنع من الإجابة، ويقول له: سل غيري إذا علم أن غيره ربما يفتيه بالقول الآخر، وكان في القول الآخر سعة للسائل، لكن لا يجوز له أن يفتيه به، ولا أن ينقل قولًا لا يعتقد صحته.

الصورة الصحيحة للفتوى

     إذا تدبرت هذه النقاط السابقة وجدت أن الصورة الصحيحة للفتوى أن يذكر المفتي ما ترجح لديه من الجواب، وليس أن يبين له الخلاف، وإن أشار إلى الخلاف لزمه أن يبين الراجح من تلك الأقوال التي ذكرها.

ضوابط الفتوى

     ومما ينبغي ذكره هنا: ما يذكره العلماء في ضوابط الفتوى من أن الفتوى إذا كانت في أمر من الأمور العامة، والمفتي يخالف أهل بلده؛ فإنه لا بد أن يراعي فتوى أهل البلد، كأن تكون الفتوى السائدة هي وجوب النقاب وهو يرى استحبابه، فإذا سئل عنه، قال: لا ينبغي لأمرأة أن تكشف وجهها، وذلك في الفتاوى التي قد تكون ذريعة لأهل الفساد كي يتوصلوا بالحق الذي فيها إلى الباطل، كما فعل ابن عباس مع من سأله عن قاتل المؤمن أله توبة؟، قال: لا؛ لأنه رأى الشر في عين السائل، وغلب على ظنه أن تكون فتواه ذريعة للوصول إلى باطل.

     أما إذا كانت في أبواب لا يتعلق بها مفسدة، أو إثارة لفتنة، أو حمل لها على غير وجهها، فلا بأس له أن يخالف عرف بلده إذا ترجح له أن ذلك هو الحق، وهذا كله محله الخلاف السائغ، أما ما لا يسوغ من الخلاف، فلابد من إنكاره كما سبق بيانه.

بيان الموقف

ثانيًا: بيان أن هذا الموقف ليس خاصًا بالمنهج السلفي وحده:

- هذه النقاط السابقة التي تمثل الموقف السلفي من الخلاف الفقهي الواقع بين الأئمة، ليست خاصة به وحده، بل هو قول الأئمة من كل المذاهب، وفيما يلي بيان ذلك:

     أما تقسيم الخلاف الفقهي للأنواع المذكورة وموقف المكلف منها؛ فقد نص عليه الشافعي في الرسالة وغيره. وأما منع اختيار الأقوال بالتشهي، فهو محل إجماع بين العلماء نقله المرداوي، وابن الصلاح، وابن عبد البر، والشاطبي. وأما منع المفتي من ذكر الأقوال دون بيان الراجح منها؛ فهو مبني على المسألة السابقة؛ ولذا فهو المعمول به عند العلماء، كما قال المرداوي والنووي، وغيرهما.

وأما جواز إحالة المفتي على غيره في الخلاف السائغ فمنقول عن الإمام أحمد.

تهمة باطلة

     مما سبق ذكره يتبين لك أن هذه تهمة باطلة؛ فالمنهج السلفي لا يخرج عن منهج الأئمة في تعامله مع الخلاف، وقد كانت تصح هذه التهمة لو أن أصحاب هذا المنهج يؤصلون لإلغاء الخلاف، أو لا يذكرون الخلاف في مقام التعليم؛ فمن يتهم السلفية بهذه التهمة، فهو متهم للمذاهب الأربعة ولعلماء المسلمين جميعًا، أما من يحتج بأن الخلاف باب سعة، فقد سبق للمركز أن أجاب عن هذه الشبهة في مقال منفصل.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك