من دروس الحج العظيمة – تحقيق التوحيد ونبذ الشرك
حدث جليل عظيم يمر بالأمة كل عام في مثل الأيام التي مضت، بل لا يدانيه حدث مثله، ولكن -ومع بالغ الأسى والأسف- كثيرون لا ينتبهون لهذا الحدث الجلل، والكثير ممن يشهد الحدث نفسه لا يعي ولا يفهم منه شيئًا؛ فلا يتغير عما كان، وتمر الأحداث تلو الأحداث بالأمة والثمرة منها ضعيفة، وعند بعضهم معدومة والله المستعان، ذلكم الحدث هو: «الحج إلى بيت الله الحرام».
جدير بنا أيها الأحبة وبالحجيج أيضًا أن يعوا هذا الحدث ويفهموه حتى نغير حياتنا فيغير الله -عز وجل- ما بنا، ودروس الحج أعظم من أن نحصيها ونستقصيها في درس واحد، لكن نشير إلى أعظمها وأهمها:
تحقيق التوحيد ونبذ الشرك
والمتأمل في مناسك الحج وشعائره يلحظ ذلك الدرس واضحًا جليًا منذ البداية، بل وعند الشروع في النسك يقول الحاج: «اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة»، وهذه دعوة للإخلاص ونبذ الشرك الأصغر، ثم يصرخ الحاج مهلاً بقوله: «لبيك اللهم..»، وفيها ما فيها من الاستسلام لله -عز وجل-، والانقياد له، وإعلان التوحيد له -سبحانه- فالاستجابة له وحده، وكذا الانقياد والطاعة، والحب والرغبة والرهبة؛ لأن الملك له والنعمة له -سبحانه-، فكما أن الله متفرد بالنعمة والعطاء لا شريك له، فهو متفرد بالتوحيد لا ند له، فلا يدعى إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يُستغاث إلا به، ولا يصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا له، وكما أن العبد مطالب بقصد الله وحده في الحج، فهو مطالب بقصده وحده في كل عبادة يأتيها، وكل طاعة يتقرب بها، فمن صرف شيئًا من العبادة لغير الله أشرك بالله العظيم، وخسر الخسران المبين، وحبط عمله، ولم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً.
الإهلال بتوحيد الله وإخلاص الدين له
لقد جاء الإسلام بهذا الإهلال العظيم، الإهلال بتوحيد الله وإخلاص الدين له والبعد عن الشرك كله صغيره وكله، دقيقه وجله، بينما كان المشركون (عباد الأصنام والأوثان)، يُهلون في إحرامهم بالشرك والتنديد، فكانوا يقولون في تلبيتهم: «لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك»، فيدخلون مع الله في التلبية آلهتهم الباطلة، ويجعلون ملكها بيده، وهذا هو معنى قول الله عنهم في القرآن الكريم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف:106)، أي: ما يؤمن أكثرهم بالله بأنه الخالق الرازق المدبر إلا وهم مشركون معه في العبادة أوثانًا لا تملك شيئًا، وأصنامًا لا تنفع ولا تضر، ولا تعطي ولا تمنع، بل لا تملك من ذلك شيئًا لنفسها فضلاً عن أن تملكه لغيرها، كما قال عكرمة : «تسألهم من خلقهم، ومن خلق السماوات والأرض فيقولون: الله، فذلك إيمانهم بالله وهم يعبدون غيره»، وعن ابن زيد قال: «ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ويعرف أن الله ربه، وأن الله خالقه ورازقه وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء:75-77). قد عرف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون، فليس أحد يشرك إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبّي تقول: «لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك؟».
المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم
لقد كان المشركون زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرّون بأن خالقهم ورازقهم ومدبر شؤونهم هو الله، ثم هم مع هذا الإقرار لا يخلصون الدين له، بل يشركون معه غيره في العبادة، من الأشجار والأحجار والأصنام وغيرهم. وقد جلَّى الله هذا الأمر وبيَّنه في مواطن كثيرة من القرآن الكريم كقوله -سبحانه-: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت:61)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
لا إله إلا الله
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: «يقول -تعالى- مقررًا أنه لا إله إلا هو؛ لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده ومقدر آجالهم، واختلافها واختلاف أرزاقهم، ففاوت بينهم فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كلاً منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها.
الواحد في عبادته
فإذا كان الأمر كذلك، فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته، وكثيرًا ما يقرر -تعالى- مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك» انتهى.
إخلاص الدين لله
وهذا المعنى يكثر في القرآن الكريم والاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبية الله -جلَّ وعلا- على وجوب توحيده في عبادته وإخلاص الدين له، ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية والتقرير، فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق؛ لأن يعبد وحده، ووبّخهم منكرًا عليهم شركهم به غيره مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده؛ لأن من اعترف بأنه الرب وحده، لزمه أن يخلص العبادة كلها له، وبهذا يتبين أن الاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق المنعم المتصرف المدبر لشؤون الخلق، لا يكفي في التوحيد ولا ينجي من عذاب الله يوم القيامة، ما لم تخلص العبادة كلها لله وحده.
إفراد الله بتوحيد العبادة
فالله لا يقبل من عباده توحيدهم له في الربوبية إلا إذا أفردوه بتوحيد العبادة، فلا يتخذون له ندًا ولا يدعون معه أحدًا، ولا يتوكلون إلا عليه، ولا يصرفون شيئًا من العبادة إلا له -سبحانه-، فكما أنه -سبحانه- المتفرّد بالخلق فهو -سبحانه- المتفرّد بجميع أنواع العبادة؛ ولهذا قال -تعالى- للذين صرفوا العبادة لغيره مع أنهم يعلمون أنه خالقهم ورازقهم {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:22)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «أي: لا تشركون بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه».
لا شريك لك
والمسلم عندما يقول في تلبيته: «لا شريك لك» يجب أن يكون عالمًا بحقيقة الشرك، مدركًا لخطره، حذرًا تمام الحذر من الوقوع فيه، أو في شيء من أسبابه ووسائله وطرقه؛ إذ هو أعظم ذنب عُصي الله به، ولهذا رتب عليه من العقوبة في الدنيا والآخرة ما لم يُرتَّب على غيره من الذنوب، من إباحة دماء أهله وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه، قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء:48)، وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا} (النساء:116)، وقال -تعالى-: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة:72)، وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر:65-66)، والآيات في هذا المعنى في القرآن الكريم كثيرة جدًا، يحذّر فيها الربُّ -سبحانه- عبادَه من الشرك به، ويبيِّن شدَّة خطره وعظم مغبَّته، وسوء عاقبته على فاعله في الدنيا والآخرة.
الشرك عاقبته وخيمة
فالشرك عاقبته وخيمة، ونهايته أليمة، وأخطاره جسيمة، ولا يربح فاعلُه من ورائه شيئًا إلا الخيبة والحرمان، والمذلة والخسران، وهو أعظم ذنب عُصي الله به؛ لأنه أظلم الظلم؛ إذ مضمونه تنقّصُ رب العالمين، وصرف خالصِ حقّه لغيره، وعدلُ غيره به؛ ولأنه مناقضٌ للمقصود بالخلق والأمر، ومنافٍ له من كلِّ وجه، وفيه غاية المعاندة لربِّ العالمين والاستكبار عن طاعته والذلِّ له؛ ولأن فيه تشبيهًا للمخلوق بالخالق -تعالى- وتقدس، وكيف يُجعَلُ مَن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، فضلاً عن غيره شبيهًا بمن له الخلقُ كلُّه، وله الملك كلّه، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله؟! فأزمة الأمور بيده -سبحانه-، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده.
الواجب على كل مسلم
إنَّ الواجب على كل مسلم أن يحذر الشرك أشدَّ الحذر، وأن يخاف الوقوع فيه أشد الخوف، فهذا نبيُّ الله وخليله إبراهيم -عليه السلام- يقول في دعائه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} (إبراهيم:35-36)، فخاف -عليه السلام- من ذلك ودعا ربَّه أن يعافيه وبنيه من عبادتها، فإذا كان إبراهيم -عليه السلام- يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام، فما ظنّك بغيره؟! كما قال إبراهيم التيمي -رحمه الله-: «ومن يأمنُ البلاء بعد إبراهيم؟!» (رواه ابن جرير في تفسيره 8-228).
لاتوجد تعليقات