رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. سندس عادل العبيد 22 مايو، 2023 0 تعليق

مفهوم الشخصية ووحداتها في السنة النبوية (2) أسس الشخصية السوية في السنة النبوية

حرص نبينا -صلى الله عليه وسلم- على بناء الشخصية السوية، التي تعمِّر وتبني، وتُصلح ولا تُفسِد، وفقَ الرسالة السامية التي دعا الإسلامُ إليها، وقد بنى -صلى الله عليه وسلم- الشخصيةَ على التوازن بين حاجات الروح والجسد، والتمسك بالقيم النبيلة والأخلاق السامية، وبتلك الشخصية السوية يتكون مجتمع صالح متماسك، يسري الحب والتعاون بين أبنائه؛ لذلك جاء هذا المقال للوقوف على أبعاد بيان مفهوم الشخصية السوية في السنة النبوية وعند علماء النفس، وقد تعرضنا لبعض المفاهيم والمعاني في الحلقة الماضية، منها: تعريف الشخصية، وقوة الشخصية، والشخصية الصادقة المؤمنة، وتكوين الشخصية الإسلامية الإيجابية، والشخصية السوية، وأكمل شخصية إنسانية، ووحدات الشخصية في السنة النبوية، واليوم نتكلم عن أسس الشخصية السوية في السنة النبوية، مع تكوين نظريات نفسية في علم النفس الإسلامي لبيان طريق السواء النفسي.

أولاً: تحقيق الإيمان بالله -تعالى

      من سمات الشخصية السوية في السّنّة النبوية تحقيق الإيمان بالله -تعالى-، وفي هذا جاء قوله - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن أفضل الأعمال فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ»، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أَن أفضل الأعمال وأولاها في تحديد هوية الإنسان هو الإيمان بالله -تعالى- ورسوله، الذي يؤثر في باقي دوافع العبد وعواطفه وسلوكه، ويعد الإيمان من أهم الجوانب المعرفية التي تشكل الشخصية السوية؛ مما يسوقه إلى الاتساق مع ذاته والتوافق الكامل.

قوة العقيدة

      الذين يملكون معتقدا قويا بالله -تعالى- يتصرفون بدرجة عالية من الكفاءة والعقلانية والفاعلية الاجتماعية، وفي إطار الصحة النفسية على المستوى الفردي والاجتماعي. والهدف المطلوب للنفس الإنسانية السوية وضحه خالقها بقوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الجنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، فمن وجه هذه النفس نحو غايتها، استحق أن يكون أمره كله في جميع أحواله إلى خير ، سواء في حالة الاكتئاب أم الحزن أم القلق والهم ، وهذا ما تعجب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ»؛ فالمؤمن الذي يتمتع بهذه الخصوصية يعلم أن أمره كله خير؛ فالإنسان المؤمن يستطيع إدارة انفعالاته بنجاح في كل الظروف؛ لما يملكه من دافع الإيمان الذي يقوده إلى السواء النفسي، لذلك كان من أهم الأسس في تكوين الشخصية السوية للمسلم وأولها الإيمان بالله -تعالى.

ثانيًا: التوازن بين الجانب الروحي والمادي

      إن تحقيق التوازن بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان عن طريق التوسط والاعتدال في إشباع كل من دوافعنا البدنية والروحية، والابتعاد عن الغلو والإسراف، يؤدي إلى التوازن في شخصية الإنسان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتَزَوج النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِني»، نظرة السنّة النبوية للإنسان نظرة شمولية، والسّنّة النبوية تقدر البعدين المادي والروحي، مؤكدة إرضاء المطالب الروحية والمادية.

      وفي شخصية المؤمن السوية يتم التمييز بين اللذة البدنية وعملية الإشباع النفسي؛ لذلك إذا أراد المسلم تحقيق السواء النفسي، عليه بالتوازن بين الجانب الروحي والمادي، وله في ذلك خير أسوة وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي حقق أعلى درجات السواء للشخصية الكاملة المثالية. قال -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كثيرا ما} (الأحزاب:21).

ثالثًا: تقدير الذات

       طاقات الإنسان تتجلى من خلال أنشطته وقدراته، والله وهب الإنسان طاقات وقدرات عقلية، وهي أهم ما يميز شخصيته، والسنّة النبوية تحث العبد على النشاط والحيوية والإنتاجية؛ مما يقوي ثقته بنفسه، الثقة المستمدة من إيمانه القوي بالله وثقته وحسن ظنه بربه -سبحانه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطَّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَل يَده»، و في هذا الحديث دعوة للعمل والنشاط والحيوية، ودعوة لكسب اليد، والبعد عن الكسل والبطالة.

حاجة إنسانية أساسية

     وتقدير الذات حالة يخبرها الإنسان وتكون خلفية لكل مظاهر تفكيره ومشاعره وأفعاله، وهو حاجة إنسانية أساسية، ويسهم بدور فعال في عملية الحياة، كما أنه لا غنى عنه للنمو السوي الإيجابي للذات الإنسانية، وله قيمة واضحة في إزهار الإنسان وفعاليته في الحياة، وينمو هذا المفهوم من خلال المواهب والفضائل الأخلاقية، والإنجازات في الحياة، والشعور بالتحكم بحياته، ومحبة الآخرين وهو ينم عن درجة الرضا عن ذاته في نواح عدة، وهو ما دعت إليه السنّة النبوية. والشعور بالرضا يأتي نتيجة لممارسة القوة في الشخصية، فيصعب الفوز فيه بسهولة؛ لذلك يعد تحديد مواطن القوة وتنميتها في الشخصية أمرا حتميا، ومن المصدات القوية ضد حدوث الاكتئاب، وهو السبيل للشخصية السوية.

      ومن صور إبراز الجوانب القوة في شخصية أصحابه -رضي الله عنهم-: اسْتَقْرِئوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةِ: مِنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَبَدَأَ بِهِ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ»، وقوله: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينَا، وَإِنْ أَمِينَنَا، أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ». واختياره لعثمان في صلح الحديبية لما يمتلكه من حلم وأناة وترو تصلح في هذا الموقف، كل هذه المواقف وغيرها الكثير تؤكد حرص النبي على تعزيز جوانب القوة في الشخصية وتقدير الذات في حدود الشرع؛ لأنها حاجات نفسية تقود إلى السواء الشخصي.

تحقيق التفاعل الاجتماعي

      أكدت السِّنّة النبوية أهمية التفاعل والتوافق الاجتماعي؛ فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»؛ فقرن حب الآخرين والإحسان إليهم بالإيمان، وجعله إحدى خصاله، بل لا يكتمل إيمان العبد حتى يحقق هذه الخصلة، وهذا يدل على أهمية هذا الجانب في الشخصية السوية.

       فالإنسان مدني بالطبع واجتماعي بالضرورة، وهو يميل إلى الحياة في مجتمع إنساني وما تتطلبه هذه الحياة من إقامة علاقات اجتماعية، في التفاعل والتكيّف والمرونة، وتكوين الاتجاهات والقابلية للتطور والتغيّر، وتحمل المسؤولية وأداء الأدوار الاجتماعية.

      والشخصية السوية تتمتع بالأريحية وما تكشف عنه من سلوك يتميز بالعطاء والتفاعل مع الآخرين، وتؤصل للوصال المبني على التفاعل والمودة بين الإنسان والآخرين. قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ سَهْلِ»، وقال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ؛ رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ»، كل هذه الأحاديث وغيرها تؤكد ضرورة التفاعل والتواصل الاجتماعي للفرد، فهذا التفاعل يسد حاجة الإنسان للأمان والانتماء، وينمي لديه الشعور بالمحبة والألفة؛ مما يقوي شخصيته ويحسن أداءه وسلوكه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك