رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. سندس عادل العبيد 20 يونيو، 2023 0 تعليق

مفهوم الشخصية ووحداتها في السنة النبوية (3) أسس الشخصية السوية في السنة النبوية

 

حرص نبينا - صلى الله عليه وسلم - على بناء الشخصية السوية، التي تعمِّر وتبني، وتُصلح ولا تُفسِد، وفقَ الرسالة السامية التي دعا الإسلامُ إليها، وقد بنى - صلى الله عليه وسلم - الشخصيةَ على التوازن بين حاجات الروح والجسد، والتمسك بالقيم النبيلة والأخلاق السامية، وبتلك الشخصية السوية يتكون مجتمع صالح متماسك يسري الحب والتعاون بين أبنائه؛ لذلك جاء هذا المقال للوقوف على أبعاد بيان مفهوم الشخصية السوية في السنة النبوية وعند علماء النفس، وقد تكلمنا في الحلقة الماضية عن أسس الشخصية السوية في السنة النبوية، وذكرنا منها تحقيق الإيمان بالله -تعالى-، التوازن بين الجانب الروحي والمادي، تقدير الذات واليوم نستكمل الحديث عن تلك السمات.

رابعًا: تحقيق التفاعل الاجتماعي

        أكدت السِّنّة النبوية أهمية التفاعل والتوافق الاجتماعي فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»؛ فقرن أول حب الآخرين والإحسان إليهم بالإيمان، وجعله إحدى خصاله، بل لا يكتمل إيمان العبد حتى يحقق هذه الخصلة، وهذا يدل على أهمية هذا الجانب في الشخصية السوية.

        فالإنسان مدني بالطبع واجتماعي بالضرورة، وهو يميل إلى الحياة في مجتمع إنساني وما تتطلبه هذه الحياة من إقامة علاقات اجتماعية في التفاعل والتكيّف والمرونة وتكوين الاتجاهات والقابلية للتطور والتغيّر، وتحمل المسؤولية وأداء الأدوار الاجتماعية.

       والشخصية السوية تتمتع بالأريحية وما تكشف عنه من سلوك يتميز بالعطاء والتفاعل مع الآخرين، وتؤصل للوصال المبني على التفاعل والمودة بين الإنسان والآخرين. قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ سَهْلِ»، وقال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ؛ رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ»، كل هذه الأحاديث وغيرها تؤكد ضرورة التفاعل والتواصل الاجتماعي للفرد، فهذا التفاعل يسد حاجة الإنسان للأمان والانتماء، وينمي لديه الشعور بالمحبة والألفة مما يقوي شخصيته ويحسن أداءه وسلوكه.

خامسًا: المرونة النفسية

        تتمتع الشخصية السوية بإرادة تزن الأمور وتقدرها؛ بحيث لا نجدها تتعامل مع موقف أو ظرف طارئ إلا اعتمادًا على ما يستدعيه الظرف من تصرفات، وقد تعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشخصية المؤمنة وما تمتلكه من مرونة نفسية وإرادة قوية؛ فقال: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ »، وفي هذا الحديث مدح للمؤمن لتأثير دافع الإيمان على سلوكه وعواطفه، فتلقى أقدار الله -سبحانه- كلها بنفس مطمئنة سوية راضية، مؤمنة بأن أمر الله كله خير، وإن خفي عليه ذلك لقصوره البشري. والمرونة النفسية تعني القدرة على التأقلم أو التوافق والتصدي ومواجهة الضغوط أو منغصات الحياة، ويشير هذا المصطلح إلى كل مقومات المناعة ضد التأثيرات السلبية للأحداث السيئة في المستقبل، وهذا ما يحتاجه المسلم في شخصيته لكي يتحكم بانفعالاته، لذلك من أهم أسس الشخصية السوية: المرونة النفسية، وهي لا تحصل لكل أحد؛ لأنها تابعة لتحقيق الإيمان الراسخ وتطبيق شعائر الدين، فمن حقق الإيمان اعتقادا وقولا وعملا، وفق لذلك ورزق التكيف والمرونة ومن ثم الراحة والسكينة.

سادسًا: النضج الانفعالي

        ويقصد به قدرة الفرد على ضبط نفسه في المواقف التي تثير الانفعال، ومن مظاهر النضج الانفعالي الاستعانة بالله -تعالى- ثم الاعتماد على النفس والثقة بها وأن يكون الشخص واقعيا في مواجهة مشاكل الحياة.

         وفي هذا المفهوم جاء حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ »؛ فالشدة والقوة لا تقاس باندفاع الانفعالات وشدة الغضب، إنما تقاس بقدرة الإنسان على ضبط نفسه والتحكم بإدارة سلوكه نحو الصواب، وفي الحديث بيان فضل النضج الانفعالي والقدرة على ضبط النفس، وأن الشدة والخيرية إنما تكون بالمؤمن الذي يملك هذه السمة في شخصيته.

ضبط النفس وتطويرها

        والحصول على الشخصية السوية إنما يتعلق بقدرة الإنسان على ضبط النفس وتطويرها، فمتى امتلك الإرادة استطاع قيادة نفسه إلى طريق السواء والإيجابية. والإنسان بفطرته يميز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، كما أنه يمتلك استعدادًا لما وهبه الله من حرية الإرادة لاختيار طريق الخير أو طريق الشر، وبقدرته على ضبط ذاته يستطيع الوصول إلى تكامل الشخصية والنضج الانفعالي.

عاطفة اعتبار الذات

        وتعد العواطف نوعا من أنواع الدوافع قوية التأثير، وعاطفة اعتبار الذات التي مركزها فكرة المرء عن نفسه، تستثار فيشعر الإنسان بالغضب من نفسه إن فعل أمرًا لا يرتضيه لنفسه، ويشعر بالسرور إذا حقق لنفسه ما يريده، وتعد هذه العاطفة المنظم الأساسي للسلوك، وهي التي تتوقف عليها قوة الشخصية وتكامل نزعاتها؛ لذلك اهتمت السنّة النبوية بالجانب الوجداني، ودعت إلى الذكاء الوجداني لما للعاطفة من تأثير ملحوظ في سلوك العبد. وأثبتت الدراسات أن الذكاء الذهني وحده غير كاف للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي الوجداني، وهو قدرة الفرد على التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين، لتحقيق أكبر قدر من السعادة لنفسه ومن حوله.

سابعًا: التفاؤل والإيجابية

        الشخصية السوية -بحكم مرونتها وثقتها المطروحة بعقلانية ومودة مع الآخرين- تقبل على الحياة مرحة منشرحة، وقد امتدح النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن القوي في كل الجوانب، فقال: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِء إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلِّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدْرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»، فالمؤمن قوي الشخصية يمتلك نظرة إيجابية للحياة، وهمة وإقداماً لكل خير ومنفعة، وهو يتحرك بدافع التوكل على الله -تعالى-، وبمشاعر الرضا عن الماضي، في الشخصية السوية ينظر المؤمن إلى الماضي وكأنه صندوق تجارب، وإلى الحاضر وكأنه ملعب للتحدي، وإلى المستقبل وكأنه ممر منير، فالتفاؤل من الإيمان والتشاؤم من الشيطان وأكثر الناس تفاؤلا أكثرهم نجاحًا وعملا.

        والواجب على المسلمين أن يكون لهم شخصيّة مستقلة في دينهم، للوصول إلى السواء البشري الذي يقودهم إلى السلوك الإيجابي والحياة الإيجابية، وهذه الأسس النبوية تساعد على تكوين مناعة نفسية في شخصية المؤمن، تمده بالقوة في مواجهة الحياة بكل ظروفها.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك