رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 7 أغسطس، 2022 0 تعليق

مشاهد وعبر من سورة الكهف  – قصة موسى -عليه السلام- والخضر (1)

 

 

هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ وأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.

     بعد أن تناولنا في الحلقات الماضية قصة فتية الكهف، وصاحب الجنتين، ها نحن وصلنا إلى قصة موسى -عليه السلام- والخضر، وهي قصة لطيفة مليئة بالعِبَر والفوائد، ورد في سبب نزولها: «أَنَّ مُوسَى -عليه السلام- قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ...».

رحلة موسى -عليه السلام

     سافر موسى -عليه السلام وهو نبي ورسول مكلَّم- إلى المكان الذي أُخبِر أنه سيجد عنده الخضر، وبالفعل قابله هناك، واستأذنه أن يلازمه من أجل أن يتعلم منه، وبعد أن أوضح له الخضر صعوبة الرحلة؛ حيث إنه سيرى أشياء لا طاقة له بتحملها ولا بالصبر عليها، إلا أن موسى -عليه السلام- رغبة في طلب العلم- أصرَّ على طلبه، ووافق الخضر أن يصطحبه معه بشرط ألا يسأله عما يراه مِن أفعال حتى يجلِّيها له، ويوضح له عللها.

جولة عجيبة

     وانطلق الرجلان -عليهما السلام- معًا في جولة عجيبة كأشد ما يكون العجب، وقدَّر الله -عز وجل- ألا يصبر موسى -عليه السلام- على الخضر، وخالف شرط الصحبة مرتين، ثم قطع على نفسه حُكمًا بفراقه في المرة الثالثة وقد كان، وفارق موسى -عليه السلام- الخضر، واستمرَّ الخضر في طريقه المكلف به من ربه، ولكنه قبل أن يفارق موسى -عليه السلام- كشف له عن العلل الخفية الكامنة وراء أفعاله وتصرفاته التي عايشها معه في فترة مصاحبته له.

الرد على أهل الكتاب

     وقد وردت هذه القصة في سياق الرد على أهل الكتاب رغم عدم سؤالهم عنها، لكي تفضح منطقهم الفاسد في الربط بين معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحوال وقعت في الدهر الأول وبين إثبات صحة نبوته؛ لأنَّ عدم علمه بهذه الحوادث ليس دليلًا على عدم نبوته؛ لأن النبي لا يعلم الغيب، ولا يعلم مِن الماضي إلا ما أخبره به ربه، ومن إقامة الحجة عليهم ضرب القرآن لهم مثلًا بموسى -عليه السلام- وهو نبيهم الأشهر، فإذا كان موسى -عليه السلام- قد خفيت عليه مسائل من العلم وسافر إلى مجمع البحرين ليتعلمها، فهل كان خفاء هذه المسائل عنه مدعاة لاتهامه بالكذب فيما يبلغ عن ربه؟!

المَعْلَم الرئيس في القصة

     انتهت القصة سريعًا، ولكن ظلَّ المَعْلَم الرئيس لها هو: ضرورة طلب العلم وأهميته وشرفه؛ فالدافع الذي جعل موسى -عليه السلام- يسافر هذا السفر الطويل الذي وجد منه النصب والتعب هو الرغبة في تحصيل العلم، والذي جعل الخضر في منزلة المُعلِّم لموسى -عليه السلام رغم أنه نبي، ومِن أولي العزم مِن الرسل- هو العلم، والذي مكَّن الخضر مما قام به من أفعال هو العلم الذي وهبه الله له، والذي جعل موسى -عليه السلام- لا يقبل تصرفات الخضر بهذه الطريقة هو غياب هذا النوع مِن العلم.

تجربة دعوية فريدة

     إن مجيء هذه القصة بعد قصة صاحب الجنتين التي تحكي تجربة دعوية في مجتمع ينعم فيه صاحب الدعوة بحرية الحركة، وقبل قصة ذي القرنين التي تحكي تجربة دعوية أيضًا، ولكن بعد حصول التمكين والقوة والسلطان، إشارة إلى أن العلم أحد أهم المحطات على طريق التمكين، بل لا يحدث التمكين الحقيقي إلا بعد أن تُحصِّل الفئة المؤمنة القدر الواجب من العلم، وتبذل المهج في سبيله.

المشهد الأول: العزيمة الصادقة

     نقف اليوم مع المشهد الأول من مشاهد هذه القصة وهو العزيمة الصادقة، ويحتوي على رسائل عدة وهي: الهمة العالية والسعي الدؤوب، والحياة تعود إلى السمكة، وحُسن الصحبة، وضريبة التجاوز، وإقالة العثرة.

المشهد كما عرضه القرآن

     قال الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}.

رسائل من قلب المشهد

     في هذا الجزء من القصة ينقل لنا القرآن الحوار الذي دار بين موسى -عليه السلام- وبين فتاه الذي صحبه معه في هذه السفرة، وقد أفصح موسى -عليه السلام- عمَّا عزم عليه مِن التوجُّه إلى مكانٍ يُقال له: مَجْمَع البحرين، وهو المكان الذي سيجد فيه الخضر، وهذا المكان علامته أن تدُبَّ الحياة في السمكة التي معهما وتقفز إلى المياه، فإذا حدث ذلك، فهذا هو مكان اللقاء المرتقب بينهما.

     أعلم موسى -عليه السلام- فتاه بهذه العلامة حتى يُذَكِّره بها فور وقوعها، ولكن الذي حصل أن الفتى نَسِيَ إخبار موسى -عليه السلام- بما حدث من عودة الحياة إلى السمكة، فاستمرَّا في سيرهما، حتى نال منهما التعب وشعرا بالجوع، وطلب موسى -عليه السلام- من فتاه أن يجلسا للراحة والغذاء، هنا تذكر الفتى أمر السمكة التي قفزت إلى البحر، وأخبر موسى -عليه السلام- بالمكان الذي حدث فيه ذلك، وهو عند صخرة مرّا عليها في الطريق، فعلم موسى أن هذا هو المكان المطلوب فرجعا إليه طلبًا للقاء الخضر.

1- الهمة العالية والسعي الدؤوب

     قال الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا»، «لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ...}، هذا هو الشعار الذي رفعه موسى -عليه السلام-؛ ليكون محفزًا له ومعينًا على هذه الرحلة الشاقة التي بدأها، مع أنه لا يعرف على وجه الدقة متى ستنتهي به وأين؟ فليس معه في هذه الرحلة مرشدًا ولا خِرِّيتًا، ولكنه يسير وفق ما وُصف له، وما أُخبر به من علامات، والهدف المحدد الذي وضعه موسى -عليه السلام- لنفسه هو أن يصل إلى منطقة مجمع البحرين، تلك النقطة التي سيحدث فيها اللقاء بينه وبين مَن يسعى للتعلم على يديه، وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف لن يتراجع أو يتباطأ أو تنصرف عنه همته، ولكنه سيواصل السير، ويستمر في بذل الجهد، حتى لو كلفه ذلك الأمر عشرات السنين أو مُددًا طويلة من الزمن.

الهمة العالية

      إن هذه الهمة العالية، وهذا البذل المتفاني ليذكرنا بالشعار الذي رفعه موسى -عليه السلام- في موطنٍ آخر عندما قال له الله -عز وجل-: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى}، فكان رد موسى -عليه السلام-: {قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (طه:84)، فهدف موسى -عليه السلام- هو الفوز برضا الله -عز وجل-؛ فلذلك لم ينتظر قومه حتى لا يؤخروه عن مراده، ولكنه أسرع في السير وتعجل حتى يبلغ مراده.

      وهكذا نتعلم من موسى -عليه السلام- الجدية والهمة العالية، والسعي لتحقيق الأهداف وإنجازها؛ فلولا هذه الهمة من موسى -عليه السلام-، لما وصل إلى هدفه، ولما نال هذه المكانة، وتأمَّل في سعى موسى -عليه السلام- في طلب العلم، وكم كلَّفته هذه الرحلة من جهدٍ ومشقةٍ، ليتعلم ثلاث مسائل مِن العلم لم يكن على علمٍ بها!

      فإذا رأيتَ هذا النشاط وصدق العزم على طلب العلم من كليم الله موسى -عليه السلام-، ونظرتَ إلى أحوالنا، وجدتَ أمورًا عجيبة، فرغم أن السبل في زماننا ميسرة عن ذي قبل، إلا أن ضعف الهمة، وفتور العزيمة يكاد يكون هو السمة الغالبة على كثيرٍ مِن الناس.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك