لزوم جماعة المسلمين يديم الأمن والاستقرار
حالة الاضطرابات التي تشهدها بعض المجتمعات وافتقاد شعوبها نعمة الأمن والاستقرار، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسياسة حكامها.. فكلما كانت سياسة الحاكم أو السلطان ملتزمة بشرع الله، وقائمة على إحقاق الحق وإصلاح الخلق، كان المجتمع أكثر استقراراً ورخاءً وأمناً وقرباً من دينه. ومن ثم الالتفات إلى التنمية والنهوض ورخاء المواطن، وقد تحدث فضيلة الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل عن أهمية الاستقرار وأسبابه، مؤكداً أن الاستقرار أهم مقومات العيش الكريم، ونيل القوة والتمكين، والرقي والتعمير.. الاستقرار بكل أنواعه، وفي كل مجالاته، ولا سيما في المجالين السياسي والاقتصادي؛ لأن من شأن اضطرابهما اضطراب حياة الناس؛ ولذا يكثر في الاستعمال السياسي والاقتصادي استخدام كلمة الاستقرار؛ ذلك أن الاستقرار ضرورة من ضرورات العيش، وأدلة ذلك من الشرع والتاريخ والواقع أكثر من أن تحصر.
الاستقرار نعمة دنيوية وأخروية
وبيَّن فضيلته أن من عظيم النعم التي بشّر بها أهل الجنة: الاستقرار فيها، وعدم الخروج منها: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}، وفي آية أخرى: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}، ولولا أهمية الاستقرار في الجنة عند أهلها لما أغرى الله تعالى عباده المؤمنين به، ولولا أن نعيم الجنة لا يكدره عند أهلها إلا خوفهم من عدم استقراره لهم لما أمنهم الله تعالى من ذلك، وأزال الخوف عنهم: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بمُخْرَجينَ}. وكل بلاد تفقد استقرارها، وتضطرب أحوالها، يفر الناس منها، ويفارقونها إلى غيرها، مخلفين وراءهم أحبتهم وأموالهم ودورهم ومزارعهم، يتركون كل غالٍ ونفيس، ينشدون الأمن والاستقرار، ولو شردوا وطوردوا، ولو عاشوا لاجئين عند غيرهم، مغتربين عن بلدانهم، معدمين بقية أعمارهم، فالدنيا بأسرها لا تساوي شيئًا بلا استقرار، فلا قيمة للقصور والدور والأموال والضياع إذا ضاع الاستقرار، ولا يبقى في البلاد المضطربة إلا من عجز عن الرحيل عنها، ينتظر الموت كل لحظة، وأعداد اللاجئين والمشردين في الأرض قد بلغت عشرات الملايين، أتراهم يفرون لو وجدوا قرارًا في بلدانهم، واستقرارًا لعيشهم؟! لا يرضى باللجوء والتشريد، ومفارقة البلدان، وغربة الدار إلا من لم يجد قرارًا في بلده الذي عاش فيه، وتنسم هواءه، وألف أهله، ولهفة المسافر أثناء عودته إلى بلده أبين دليل على ذلك، فترى شوقه في عودته ولو إلى قرية لا تذكر من مدينة أشهر.
وإذا فقد الاستقرار من بلد وعجز بعض من فيها عن مفارقتها كان بقاؤهم فيها جحيمًا عليهم؛ لما يلاقونه من الخوف والنقص والجوع، وأهل النار لو قدروا على الخروج منها لخرجوا، فكان علمهم باستقرارهم فيها عذابًا مضاعفًا إلى عذابهم بها؛ ولذا وصف قرارهم فيها بالسوء والبؤس: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} لهم، وفي الخروج منها: {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}.
ركن عظيم به يطيب العيش
ويشدد الشيخ الحقيل على أن نعمة الاستقرار العظيمة هي الركن الأعظم الذي منحه الله تعالى للبشر ليصح عيشهم في الأرض، ويستطيعوا عمارتها، والقيام بأمر الله تعالى فيها، وفي قصة هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض، واستخلافه وذريته فيها، كان الاستقرار هو الركن الأول من ركني عيش الإنسان على الأرض وعمارتها: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، فالمستقر هو قرارها لهم، وأمنهم فيها، والمتاع هو المآكل والمشارب والملابس والمراكب ونحوها، وفي منة الله تعالى على عباده: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}، أي: أقدرناكم على أمور الأرض، وخولناكم التصرف في مخلوقاتها، والتمكين في الأرض هو المستقر المذكور في الآية السالفة، كما أن المعايش في هذه الآية هي المتاع في السابقة، ومثل الآيتين السابقتين قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ}.
ومن براعة البيان في القرآن الكريم أنه يقدم الأصل على الفرع، والأهم على المهم، وكان هذا الأسلوب البلاغي مطردًا في آياته، ولما كان الاستقرار أهم من المعايش والأرزاق والمتاع، بل لا متاع ولا معايش إلا باستقرار كما دلَّ عليه استقراء تاريخ البشر وواقعهم، فإن الآيات الكريمة قدمت الاستقرار على ما سواه، وجعلت المعايش تالية له، وجاء هذا الترتيب والبيان في سورتي البقرة والملك، وفي موضعين من سورة الأعراف؛ ليعلم الناس أنه لا قيام لأمور دينهم ودنياهم، ولا عمارة للأرض التي استخلفوا فيها إلا بتحقيق الاستقرار فيها، وأن أي اضطراب سيكون له أثر بالغ في رعاية مصالح الدين والدنيا، وفي الامتنان بنشأة البشر: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «مستقر في الأرض ومستودع في القبور».
إن الأرض لم تكن مستقرًّا للبشر، ولم يُمَكّن لهم فيها إلا لما ذللها الله تعالى لهم ومهدها ومدها وأرساها فلا تضطرب: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}، {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} وكان استقرار الأرض للبشر من دلائل الربوبية: {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} ثم ختم الآية: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ}، وفي آية أخرى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا}، وختمها بقوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
من لوازم الاستقرار
ويلفت فضيلته إلى أن من لوازم الاستقرار الذي تتشوق إليه المجتمعات التي تفتقده أن يكون الإنسان سيد الأرض وملكها، ويدير المخلوقات فيها، فسخر الله تعالى له كل ما في الأرض: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} فكانت مخلوقات البر والبحر أكثر من البشر، وأقوى منهم، ومع ذلك يقودها الإنسان، ويملكها ويتصرف فيها، فتنقاد له سخرة من الله تعالى، فلا عدوان على البشر إلا من البشر، ولا خوف عليهم إلا منهم؛ لأنهم سادة الأرض، ملّكهم الله إياها، وسخر لهم ما فيها؛ ليقيموا دينه الذي ارتضاه عليها، وليعبدوه لا يشركون به شيئًا:{ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ
الشريعة تقطع الطريق على الفوضى والاضطراب
ويقول الشيخ الحقيل: لما كان للاستقرار هذه الأهمية البالغة في صلاح أحوال الناس، واستقامة دينهم ودنياهم؛ جاءت الشريعة الربانية تدعو إلى كل ما يؤدي إلى الاستقرار، وترغب فيه، وتقطع كل طريق يؤدي إلى الفوضى والاضطراب، وتنهى عنه، وتمنع منه، وكان هذا أصلاً متينًا دلّ عليه القرآن والسنَّة في إجراءات عدة، وتشريعات متنوعة، فمن تشريعات الإسلام لإدامة الاستقرار: الأمر باجتماع الكلمة، والنهي عن الاختلاف والفرقة؛ لأن الاختلاف يؤدي إلى الاحتراب والقتال، فيزول الاستقرار: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وفي آية أخرى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَدُ الله مع الْجَمَاعَةِ» رواه الترمذي وقال: حسن غَرِيبٌ.
مجانبة الفتن
ومن تشريعات الإسلام لإدامة الاستقرار: مجانبة الفتن وأهلها، والحذر من مساربها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ، وَلَمَنِ ابْتُلِي فَصَبَرَ» رواه أبو داود. وقد يظن الإنسان أن لديه إيمانًا يعصمه من الفتنة، أو عقلاً يدله على الصواب فيها، فإذا قلبه يتشربها وهو لا يشعر، فتصلاه نارها، ويحرقه أتونها، ويغرق في لجتها.
وحين حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من فتنة الدجال، ووصفه لأمته وصفًا دقيقًا يعرفونه به، أمر بالهرب منه؛ خشية الافتتان به، فقال صلى الله عليه وسلم: «من سمع بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عنه، فَوَالله إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وهو يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ من الشُّبُهَاتِ» رواه أبو داود. فإذا كان هذا فيمن فتنته معلومة، ووصفه للمؤمن معروف، فكيف بفتنة ملتبسة لا يعلم المؤمن عنها شيئًا، ولا يدري أهي خير أم شر؟!
لزوم جماعة المسلمين
ومن تشريعات الإسلام لإدامة الاستقرار: الأمر بلزوم الجماعة، والنهي عن شق عصا الطاعة؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أخبر عن زمن استحكام الفتن، وكثرة الدعاة إلى جهنم، سأله حذيفة رضي الله عنه عمَّا يفعل إن أدركه ذلك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» متفق عليه.
وأمر -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على الظلم والأثرة، ومدافعة المنكرات بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا»، قالوا: فما تَأْمُرُنَا يا رَسُولَ الله؟! قال: «أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا الله الذي لَكُمْ» رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من رَأَى من أَمِيرِهِ شيئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عليه؛ فإنه من فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» رواه الشيخان.
وكل ما يؤدي إلى تباعد القلوب وتباغضها، واختلاف الكلمة وافتراقها، وسفك الدماء المعصومة من تظاهرات واحتجاجات وخروج وغير ذلك فيُنهى عنه، ويُحذَّر منه؛ لأن ذلك، يؤدي إلى الاضطراب، ويقضي على الاستقرار وهو مطلب شرعي ضروري، ويتأكد ذلك في البلاد التي تشرئب أعناق أهل البدعة لافتراسها، والسيطرة على أجزاء منها، وتغري الدول الاستعمارية باقتحامها ونهب ثرواتها؛ فالخير لأهلها حكامًا ومحكومين أن تأتلف قلوبهم، وتجتمع كلمتهم، ويطفئوا مشاعل الفتنة فيهم، ويصلحوا ذات بينهم.
لاتوجد تعليقات