رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 17 يونيو، 2010 0 تعليق

فـقه الدعوة (6)

 ذكرنا في الحلقة السابقة أن النصوص الشرعية بينت المقاصد العالية للدعوة الإسلامية التي هي هداية الناس، وتحقيق العبودية لله عز وجل ونبذ الشرك والكفر، وتزكية النفوس وتهذيب الأخلاق وفق المنهج الرباني.
 
شروط الدعوة:
للدعوة إلى الله عز وجل شروط لابد من مراعاتها ليحصل الأجر والثواب في حق الداعي، ولتحقق الدعوة أهدافها في حق المدعو والمجتمع؛ لأن الدعوة إلى الله من أفضل العبادات، ومن أسمى القربات، وباب العبادات والقربات في الشرع المطهر منضبط بشروط وضوابط مستمدة من النصوص الشرعية والقواعد الكلية؛ حفظا للمكلفين من اتباع الهوى أو الانحراف في العبادات عن مقصودها بالغلو أو التقصير أو الابتداع والإحداث.
 
الشرط الأول: الإخلاص
من أهم شروط الدعوة إلى الله عز وجل الإخلاص قال الشيخ ابن باز رحمه الله في بيان أخلاق الدعاة: «يجب على الداعية أن يكون مخلصا لله عز وجل، لا يريد رياء ولا سمعة ولا ثناء الناس ولا حمدهم، وإنما يدعو إلى الله يريد وجهه عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله} وقال عز وجل: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله}، فعليك أن تخلص لله عز وجل، هذا أهم الأخلاق، هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة «اهـ.
والإخلاص: هو تصفية السر والقول والعمل من إرادة غير الله، ويكون في القلب والقول والعمل والحال.
قال الدكتور سيد نوح رحمه الله مبينا حقيقة الإخلاص في الدعوة: «أن يقصد الداعية بكل ما يصدر منه من قول أو فعل وجه الله وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته، من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، واضعا هذه الآية نصب عينيه: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت}.
إن هذا الخلق إن توافر في الداعية حمله على بذل كل ما في طاقته، كل ما في وسعه في الدعوة إلى الله، وكان سببا في عون الله وتأييده وتوفيقه ونصره فيكون النجاح والفلاح.
وفي سيرة الأنبياء والمرسلين وورثتهم على مدار الزمان كله ما يقطع بأهمية هذا الخلق في حياة الدعاة إلى الله ونجاحهم في كل ما يقصدون» اهـ.
وقد تكاثرت الأدلة على وجوب الإخلاص وفضله في الجملة: فقال عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}، وقال عز وجل: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} وقال عز وجل: {وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}.
وقال [: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، وذكر منهم: رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» (أخرجه مسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله [: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (أخرجه مسلم)، وقال ابن عباس: من راءى بشيء في الدنيا من عمل وكله الله إليه يوم القيامة، وقال: انظر هل يغني عنك شيئا، وعن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله [: «من يسمّع يسمّع الله به، ومن يراءِ يراءِ الله به» (متفق عليه)
وعن محمود بن لبيد قال: قال النبي [: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» (أخرجه أحمد).
وعن أبي بن كعب أن رسول الله [ قال: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض؛ فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» أخرجه أحمد.
قال عبادة بن الصامت: «يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال: ميزوا ما كان منها لله عز وجل فيماز، ويرمى سائره في النار» وقال الفضيل: «ترك العمل من أجل الناس شرك، والعمل من أجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله عنهما»، وقال جعفر بن حيان: «ملاك هذه الأعمال النيات؛ فإن الرجل يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله».
وقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في الإخلاص وتجريد العمل لوجه الله:
قال حذيفة: «ثلاث خصال إن كنّ فيك لم ينزل من السماء خير إلا كان لك فيه نصيب، يكون عملك لله عز وجل، وتحب للناس ما تحب لنفسك، وهذه الكسرة من الطعام تحرّ فيها ما قدرت».
قال بعض الوعاظ لمحمد بن واسع: «ما لي أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر ؟» فقال محمد: «يا فلان ما أرى القلوب أتيت إلا من قبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب».
وعن ابن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: «لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق».
قال خالد بن صفوان: لقيت مسلمة بن عبد الملك، فقال: يا خالد أخبرني عن حسن أهل البصرة، يعني الحسن البصري، قلت: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبههم قولا بفعل، وإن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنيا عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم؟!
وعن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول: «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل «، وقال عمرو بن ثابت: لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون على آثار سواد في ظهره، فقالوا: ما هذا ؟ فقالوا: كان يحمل جراب الدقيق ليلا على ظهره فيعطيه فقراء المدينة».
والطريق إلى الإخلاص بقطع الطمع فيما في أيدي الناس والزهد في الثناء والمدح؛ فلا يجتمع الإخلاص مع محبة الثناء والمدح والطمع فيما في أيدي الناس.
قال الدكتور عبد الكريم زيدان: «المطلوب من الداعي أن يدعو إلى الله وهذا هو الواجب عليه، وليس المطلوب منه أن يستجيب الناس؛ قال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ}، فإذا كان الرسول غير مكلف إلا بالتبليغ، فغيره من آحاد الأمة أولى ألا يكلف بغير التبليغ».
ثم يتبع ذلك ببيان بعض النتائج التي تبنى على هذا الأصل، فيقول: «إذا كان المطلوب من المسلم أن يدعو إلى الله وليس المطلوب منه أن يهدي الناس، فعليه أن يستمر على الدعوة بلا كلل ولا ملل ولا فتور؛ لأن واجبه البلاغ والتبيين، وهذا متعلق به فعليه أن يؤديه كما يؤدي سائر العبادات وإن لم يستجب له أحد».
ويقول أيضا: «الداعي إلى الله يؤدي واجبا ويقوم بعبادة امتثالا لأمر الله، والأجر على العبادة يناله العابد من الرب الجليل تفضلا منه وإحسانا، وعلى هذا فلا يطلب الداعي من أحد من الخلق أجرا على دعوته ولا مالا ولا ثناء ولا جاها ولا أي عوض من الأعواض المادية أو المعنوية؛ قال تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام: {فإن توليتم فما سألتكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين}، وقال عن نبينا [: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} وهكذا جميع رسل الله يدعون الناس إلى الله ولا يبغون منهم جزاء ولا شكورا؛ لأن أجرهم على الله الكريم، قال عز وجل: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون} اهـ.
ويحذر الدكتور سيد نوح رحمه الله من خطر الرياء والسمعة على الدعوة والدعاة فيقول: «الآفة الثامنة التي يبتلى بها بعض العاملين، والتي تعد من أخطر الآفات، وأشدها فتكا بهم، وعليهم أن يجاهدوا أنفسهم فورا للتخلص والتطهر منها و إلا ضل سعيهم في الدنيا والآخرة إنما هي الرياء أو السمعة.»
ثم يوضح ذلك بقوله: «الرياء أن يعمل لغير الله، والسمعة أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس «، ثم يذكر رحمه الله تعالى مجموعة من الآثار الضارة والعواقب المهلكة للرياء والسمعة يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- الحرمان من الهداية والتوفيق.
2- الضيق والاضطراب النفسي.
3- نزع الهيبة من قلوب الناس.
4- الإعراض من الناس وعدم التأثر.
5- عدم إتقان العمل.
6- الفضيحة في الدنيا والآخرة.
7- الوقوع في غوائل الإعجاب بالنفس ثم الغرور ثم التكبر.
8- بطلان العمل.
9- العذاب الشديد في الآخرة.
وتفصيلها في رسالته القيمة (آفات على الطريق).
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الإخلاص لوجه الكريم، وأن يحفظنا جميعا من الرياء والنفاق والشرك والشقاق وسيئ الأخلاق، إنه سميع قريب مجيب 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك