سيكولوجية السعادة في السّنّة النّبويّة – السعادة من ثمـــرات الإخلاص والرضا والزهد
ما زال حديثنا مستمرًا عن ثمرات الالتزام بالقيم الإسلامية وأثرها في تحقيق السعادة، وقد ذكرنا أن القيم هي الفضائل الدينيّة والخلقيّة والاجتماعيّة التي تقوم عليها سعادة الفرد والمجتمع في الحياة، كما أن التزام القيم الإسلامية من ثمـــار السعادة المؤثرة في سلوك الإنسان وانفعالاته، وتحدثنا عن التقوى بوصفها إحدى القيم الأساسية لحصول كلّ سعادة وطمأنينة، واليوم نتكلم عن الإخلاص، والرضا، والزهد.
الإخلاص
الإخلاص هو الصفاء والنقاء، وأخلص لله دينه أي ترك الرِّيَاء فِيهِ، وحقيقته: أن يريد العبد بعمله التقرب إلى الله -تعالى- وحده، كما أن الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء: أن يكون ظاهره خيرًا من باطنه، والصدق في الإخلاص: أن يكون باطنه أعمر من ظاهره، وما أحسن ما قال الفضيل بن عياض في بيانه!؛ هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا: لم يقبل. حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السّنّة. ثم قرأ قوله -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (سورة الكهف: 110).
السبيل إلى محبة الله
من أراد محبة الله التي هي سبيل سعادة الدارين فعليه بالإخلاص قولًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا، وإعمار قلبه بالتوحيد لله -تعالى-، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ»، والله -تعالى- إذا أحب عبدًا فقد سعد وفاز بالدّارين، وهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيّن لنا أنّ الله يحب العبد التقي الورع، والغني غني النفس، والخفي المشتغل بالعبادة وأمور نفسه المخلص لله -تعالى-، وهذه علامة للسعادة بأن تكون حسنات العبد خلف ظهره وسيئاته نصب عينيه، وعلامة الشقاوة أن يجعل حسناته نصب عينيه وسيئاته خلف ظهره والله المستعان.
خصلة عظيمة
والإخلاص خصلة عظيمة، تزكي النفس، وترقى بسلوكيات العبد، وتقوي مناعته النفسية من العناء، وتقربه من الله -تعالى-، وعلى قدر القرب من الله -تعالى- تكون السعادة، وهو عملية نفسية تنشط الأفكار ومشاعر الصدق في العمل، والاستمتاع بأدائه والرضا به، وتدفع إلى الدقة والتفوق، وعكس الإخلاص الرياء والفرق بينهما يكمن في الدافع لإتقان العمل والحاجة إلى المراقبة.
الرضا
ومن القيم التي تحقق السعادة قيمة الرضا، وهو منزلة عظيمة تفوق القناعة حتى تصل للمحبة والسكينة، وهو العملة الجديدة التي أصبح عالم اليوم يسعى إليها، ويقول (سيلجمان): الرضا المعنوي هو الطريق الى ما أراه مكونا للحياة الطيبة.
عملية نفسية
والرضا عملية نفسية إرادية، ومصدر من مصادر السعادة، والرضا يجعل الإنسان نشيطا مرتاحا في حياته اليومية، وهو يشمل مجالات الحياة كلها، فمن الرضا قبول الإنسان لقدراته، وصحته ولون بشرته وطوله ومظهره، وأسرته، وعمله، وغيرها من المجالات، مع تقبل الحياة والاستمتاع بها في حدود الشرع، ولا يتعارض الرضا مع الطموح والرغبة في التقدم؛ لأن الشخص الراضي نشيط مثابر حريص على ما ينفعه وينفع الآخرين.
الزهد
الزهد من الإعراض، زهد فِيهِ وَعنهُ زهدًا وزهادة: أعرض عَنهُ وَتَركه لاحتقاره أو لتحرجه مِنْهُ أَو لقلته، وَيُقَال: زهد فِي الدُّنْيَا: ترك حلالها مَخَافَة حسابه، وَترك حرامها مَخَافَة عِقَابه، والزَّاهِد: العابد، والزهد في الدنيا: الرغبة عنها، وألا يتناول الإنسان منها إلا ما ينفعه في الآخرة، وهو أعلى من الورع، قال -تعالى-: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (سورة الحديد: 23) الزهد بين كلمتين في القرآن، فمن لم ييأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه، والزهد أعلى من الورع؛ لأنّ الورع: ترك ما يضرّ من أمور الدنيا، والزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، وترك ما لا ينفع أعلى من ترك ما يضر؛ لأنّه يدخل في الزهد الطبقة الوسطى التي ليس فيها ضرر ولا نفع، فالزهد يتجنب ما لا نفع فيه، وأمّا الوَرَع فيفعل ما أبيح له، لكن يترك ما يضره.
حقيقة الزهد
واختلف الناس في حقيقة الزهد، وأحسن ما قيل فيه هو: ألّا تكون الدنيا بمنزلة من القلب، واختلف أيضًا في حقيقة الدنيا، وأحسن ما قيل فيها: إنها كل لذة قبل الموت لا أثر لها بعده، بمعنى أثر خير.
ومفهوم الزهد اصطلاحًا على أضرب:
- أحدها: الزهد في الحرام، وهو الزهد الواجب العام.
- والثاني: الزهد في الشبهات، والأشبه وجوبه؛ لأنه وسيلة إلى اتقاء الوقوع في الحرام، واجتناب الحرام واجب، ووسيلة الواجب واجبة، فالزهد في الشبهات واجب.
- والثالث: الزهد فيما عدا الضرورات من المباحات، وهو المراد من هذا الحديث ظاهرًا، وهو زهد الخواص العارفين بالله -عزَّ وجلَّ.
الزهد سبب كل السعادة
و الزهد سبب كل السعادة ففيه غنى القلب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» صححه الألباني، والسَّعيد من اختارَ باقِيةً يَدُومُ نَعِيمُها، على فانية لا يَنْفَدُ عَذَابها، وفي هذا الحديث ترغيب في الزهد في الدنيا والإعراض عنها، والرغبة في الآخرة والإقبال عليها، والتشجيع في ترك الدنيا بمعنى الإنفاق ممن هي في يديه، والإعراض عنها ممن ليست عنده كأنّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أعرض عن الدنيا، وأقبل على الآخرة، رزق الفراغ والتنعم وجمع الشمل، وأتته الدنيا، ومن أقبل على الدنيا وأعرض عن الآخرة شغل بما لا يجري، وتعب فيما لا يغني عنه، فتزداد الدنيا عنه بعدًا؛ لأنّه لا يصيب منها إلا المقدور، والمقدور لا يغنيه، وإن كثر لغلبة الحرص عليه والتأسف على فوت ما لم يقدر له وتعب الطلب، والخيبة في التعب، فهو فقير وإن ملك الدنيا، وفي الحديث تنبيه وإرشاد في الرجوع إلى الله -تعالى- والإقبال على الله، ولا يقبل على الآخرة إلّا من استغنى عن الدنيا، فإن الدنيا حجاب الآخرة فإذا رفع الحجاب عن بصر القلب رأى الآخرة بعين إيقانه، ومن نظر إلى الآخرة شغل عن الدنيا، وصارت مرفوعة منه متروكة عنه، فمن أغناه الله -تعالى- عن الدنيا بالزهد فيها، والرغبة عنها صارت الآخرة همه؛ لأن الإنسان حريص، والنفس راغبة، إما ترغب إلى الدنيا أو إلى الآخرة، فإذا حجبت عن الدنيا بالعزوف عنها، والاستغناء منها افتقرت إلى الآخرة، ورغبت فيه.
الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»، ومعنى هذا الحديث أن كل مؤمن ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة ومكلف بفعل الطاعات، فإذا مات استراح من هذا وانقلب إلى ما أعد الله -تعالى- له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان، وأمّا الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغّصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد، وروي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ» صححه الألباني.
حاجتان عظيمتان
وهذا الرجل طلب حاجتين عظيمتين: أولهما محبة الله -عزّ وجل-، والثانية محبة الناس، فدلّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على طريق الوصول إليهما، وفي هذا الحديث مشروعية طلب حب الناس، وفيه دلالة على أن الزهد سبيل محبة الله للعبد، وفيه الحث والترغيب في الزهد فيما عند الناس؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله سببًا لمحبة الناس لك، وهذا يشمل ألا تسأل الناس شيئًا، وألا تتطلع وتعرِّض بأنك تريد كذا، والطبيعة الإنسانية مبنية بكيفية تجعلها أكثر استعدادا لمنح الحب لمن هم أقل طلبا له.
سبب لمحبة الله -عزَّ وجلَّ
والزهد في الدنيا سبب لمحبة الله -عزَّ وجلَّ- فلأن الله -عزَّ وجلَّ- يحب من أطاعه، ويبغض من عصاه، وطاعة الله -عزَّ وجلَّ- مع محبة الدنيا مما لا يجتمع، عرف ذلك بالنصوص والنظر والتجربة والطبع والتواتر، والله -عزَّ وجلَّ- لا يحب الخطايا ولا أهلها، ولأن الدنيا لهو ولعب والله -عزَّ وجلَّ- لا يحب اللّهو ولا اللّعب.
الشعور بالرضا والطمأنينة
والزهد من العمليات النفسية التي تقوي الشعور بالرضا والطمأنينة؛ نتيجة لتعلق القلب بالمحبوب الأعظم، وفي الزهد تنشيط مناعة المؤمن ضد العناء النفسي والقلق والحزن والهم، وهو مؤشر مهم للسعادة الحقيقية.
لاتوجد تعليقات