سيكولوجية السعادة في السّنّة النّبويّة – ألفاظ السعادة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
ما زال الحديث موصولاً عن ألفظ السعادة في السنة النبوية، وقلنا: إن السعادة ذكرت بالاسم نفسه في أحاديث عدة في السّنّة النبوية، تحمل لفظ السعادة أو مشتقاته أو مرادفاته، منها ما هو ضعيف، وما هو مكرر بالمعنى؛ لذلك اقتصرت على الأحاديث المقبولة الجامعة في هذا الباب دون تكرار،واليوم نستكمل ما بدأناه.
الرضا
الرضا مصدر رَضِيَ، أي طيّب النفس، قانع بما لديه، وهو ضد السخط، ويكاد يتفق الفلاسفة وعلماء النفس أن السعادة هي الشعور بالرضا، وأن الرضا هو المكون الأساس للسعادة، ومن الأحاديث التي تحمل معنى الرضا، ما روي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ»، حسنه الألباني. وسيأتي شرح هذا الحديث.
والشعور بالرضا يكون في مجالات الحياة كلها، فيرضى الإنسان بحياته كما هي، من أجل صحته النفسية وسعادته، وبهذا يكون أقرب لفظ للسعادة من الألفاظ النظيرة هو الرضا، لما تحمله السعادة من مشاعر الرضا الكبيرة، فإن كان الأمر خيرًا فخيرًا، وإن كان مالا تطيب به النفس؛ فالرضا يمسح كل حزن؛ ويرقى بالعبد لمنازل الصالحين المقربين، فاللهم اجعلنا من السعداء وارزقنا رضاك والجنة.
السرور
السرور فرح وحبور، والسرور ارتياح ولذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه أو اندفاع ضَررٍ، والسرور من أكثر المشاعر الإيجابية المتعلقة بالسعادة؛ لما فيه من انفعالات وجدانية تحصل للسعيد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «منْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»، رواه البخاري. ومعنى الحديث: أي من أفرحه أن يبسط له في رزقه ويبارك له فيه ، وينسأ أي يؤخر في أثره، وأثر الشيء هو ما يدل على وجوده ويتبعه، والمراد به هاهنا الأجل، وسمي به؛ لأنه يتبع العمر، فمن سره ذلك فليصل رحمه.
والصلة: العطف والحنان والرحمة، وصلة الله لعباده رحمته لهم وعطفه بإحسانه، ونعمه عليهم، أو صلته له بأهل ملكوته، والرفيق الأعلى، وقربه منهم -جلّ اسمه- بعظيم منزلته عنده، وشرح صدره لمعرفته.
واختلفوا في الرحم، فقيل: كل ذي رحم محرم. وقيل: وارث. وقيل: هو القريب، سواء كان محرما أم غيره، ووصل الرحم تشريك ذوي القربى في الخيرات، وهو قد يكون بالمال وبالخدمة وبالزيارة ونحوها.
«وإن قيل: أليس قد فرغ من الأجل والرزق؟
فالجواب من خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون المراد بالزيادة توسعة الرزق وصحة البدن، فإن الغنى يسمى حياة، والفقر موتا.
الثاني: أن يكتب أجل العبد مائة سنة، ويجعل تزكيته تعمير ثمانين سنة، فإذا وصل رحمه زاده الله في تزكيته فعاش عشرين سنة أخرى.
الثالث: أن هذا التأخير في الأصل مما قد فرغ منه لكنه علق الإنعام به بصلة الرحم، فكأنه كتب أن فلانا يبقى خمسين سنة، فإن وصل رحمه بقي ستين سنة.
الرابع: أن تكون هذه الزيادة في المكتوب، والمكتوب غير المعلوم فما علمه الله -تعالى- من نهاية العمر لا يتغير، وما كتبه قد يمحى ويثبت.
الخامس: أن زيادة الأجل تكون بالبركة فيه وتوفيق صاحبه لفعل الخيرات وبلوغ الأغراض، فنال في قصر العمر ما يناله غيره في طويله.
وخلاصة ذلك كله أن الصلة والبر من أسباب السرور وسعة الرزق والبركة في العمر.
الأمان
الأمن هو عدم توقع مكروه في الزمن الآتي، وأصله طمأنينة النفس وزوال الخوف، وهو من عناصر السعادة المهمة التي ركز عليها علماء النفس، وأحد جوانب الرضا التي يشعر بها الإنسان، وارتباط الأمن بالسعادة ارتباط وثيق لما له من تأثير على الشعور بالفرح والسرور، ومن الأحاديث التي ورد فيها لفظ الأمان: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»، حسنه الألباني بمجموع طرقه. والأمان من النعم الكبيرة التي دلنا عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيها سعادة الفرد والمجتمع، وهو من المؤشرات المهمة في تحديد السعادة.
البشارة بالخير
البُشْرى خبر سارّ ومُفرِح لا يعْلَمه المُخْبَر به، وهي خير وسرور وحسن، قال -تعالى-: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 97).
تعد السعادة انعكاسًا لمعدلات تكرار الانفعالات السارة، والبشرى أحد الأمور التي تؤثر على انفعال الإنسان؛ فيشعر بالسعادة، والبشرى لها أحوال كثيرة منها ما يكون في الدنيا، ومنها ما يكون في الآخرة.
ومن الأحاديث التي جاء فيها تبشير المؤمنين، قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ردا على سؤال أبي ذر: «ذَلِكَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، قَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟! قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟! قَالَ: نَعَمْ ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ»، رواه مسلم.
حصول البركة
البَرَكَة نماء وخير ونعمة إلهيَّة، وهي زيادة، وسعادة، وقول عبارة: «على بركة الله وببركة الله» هي عبارة تقال تيمّنًا بالخير، وتحمل البركة معانيَ كثيرة تؤدي للسعادة، ويكفي أنها نعمة إلهيّة تصيب العبد بما فيها من الخير والزيادة، والإنسان إذا عمل الصالحات يشعر ببركة هذه الأعمال الفضيلة، والفضائل هي مفاتيح السعادة كما قرر ذلك العلماء، وتعد البركة من الجانب المعرفي الذي يدركه السعيد في حياته من خلال ما يحصل له من توفيق ومعاونة وزيادة.
ومن الأحاديث التي تحمل معنى البركة: حديث أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «اقْرَؤوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ»، رواه مسلم. قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ، هنا يقرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قراءة القرآن الكريم تؤدي إلى البركة التي فيها الخير والسعادة، ولا سيما المواظبة على تلاوة سور البقرة وآل عمران والتدبر في معانيها والعمل بما فيها فإنه بركة، أي زيادة ونماء ومنفعة عظيمة، والعبد يشعر ببركة القرآن والأعمال الصالحة في حياته، وما يناله من هذه البركة من توفيق وخير وطمأنينة وزيادة.
وفي هذا الحديث إثبات أن قراءة القرآن من مؤشرات السعادة الضرورية، التي تؤثر على شعور العبد وانفعالاته، ففي قراءة القرآن يجد العبد حلاوة ولذة وانشراح صدرٍ.
البحبوحة ورغد العيش
البُحْبوحَة سعةُ العَيْش ولينُه، وهي نعمةٌ وافرة، والبحبحة والتبحبح التمكن في الحلول والمقام، والبحبوحة من الملذات المادية التي تؤدي للسعادة، وورد لفظ بحبوحة مرة واحدة في السّنّة النبوية، في حديث يقررها في الآخرة جزاءً لمن التزم جماعة المسلمين وصفهم، أي من حافظ على مجتمعه، وسعى للصف الواحد، وأن يكون فردًا صالحًا على نهج النبي - صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، فذلك الذي له سعة العيش والنعم الوافرة في الجنة.
وجاءت هذه المعاني فيما رواه ابن عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- فِينَا فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ، أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَم الْمُؤْمِنُ»، صححه الألباني. والمراد بالجماعة كما ذكر العلماء: السواد الأعظم وما عليه الجمهور من الصحابة والتابعين والسلف، فمن أراد سعة العيش والنعيم في الجنة فعليه بجماعة المسلمين، بتحقيق مبدأ التعاون والإخاء، المبدأ الذي يصنع المجتمع المسلم السعيد.
وفي هذا الحديث تأكيد على تأثير الجانب الاجتماعي في تحقيق سعادة العبد، فالانتماء للجماعة مصدر من مصادر السعادة التي تؤثر إيجابا على انفعالاته وشعوره، وهو مؤشر مهم جدا، وفيه بيان ارتباط السرور والسعادة بالطاعات والخيرات، وهي مؤشرات مهمة أيضا.
لاتوجد تعليقات