سيكولوجية السعادة في السّنّة النّبويّة – مؤشرات السعادة في السنة النبوية
إنّ السعادة كلمة قليلة الحروف كبيرة المعاني، ويبذل الناس في طلبها كلّ غالٍ، ويبحثون عنها في كل المجالات والطرق، ونجد الكثير-بل الأكثر- تعب في البحث عنها، وآخرون ظنّوها حلمًا أو كلمات على ورق، والحقيقة أنّ منهجها واضح في الإسلام، وأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دلّنا عليها، وكان منهجه - صلى الله عليه وسلم - منهج السلام والطمأنينة والسكينة، ومن اتبعه فاز بسعادة الدّارين.
لذا سنبين منهجه - صلى الله عليه وسلم - في تحقيق سعادة الدّارين، السعادة التي تضفي على حياة العبد الفرح والسرور، والبشرى والانشراح، فهي سعادة حقيقة فاز بها كثير من العباد، على رأسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام -رضي الله عنهم-، ومن تبعهم بإحسان.
الطريق الأمثل للسعادة
ففي اتباع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحياة كلها الطريق الأمثل والسبيل الأوحد للشعور بالسعادة الحقيقية، وهذا الاتباع يؤدي إلى النضج الانفعالي والوجداني والاجتماعي والسلوكي، وإلى توافق الإنسان مع نفسه ومع العالم من حوله، ويزوده بالقدرة على تحمل مسؤوليات الحياة ومواجهة ما يقابله من مشكلات وابتلاءات، ومن ثم يتقبل العبد واقع حياته، ويحظى بمشاعر الرضا والطمأنينة والسرور، وفي هذا المنهج النبوي يحقق العبد ذاته، ويستغل قدراته وإمكاناته إلى أقصى حد ممكن، وتكون شخصيته متكاملة سوية، وسلوكه مستقيما منضبطا، ويعيش في سلام ضمن حدود الشرع وتعاليمه.
مؤشرات ومعايير
وللاستدلال على سعادة الأفراد واتباعهم لمنهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحياة، هناك مؤشرات تشمل عوامل عدة ومعايير مستنبطة من السّنّة النبوية، وتتعلق سعادة العبد بمدى التزامه بهذه المؤشرات ومدى تأثيرها على سلوكه وانفعالاته، ويمكن تلخيص مؤشرات السعادة في السّنّة النبوية إلى خمسة مؤشرات عامة، وهذه المؤشرات تشمل علاقة العبد بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالآخرين والمجتمع، وفيها بيان لدوافع العبد وحاجاته ورغباته، وفيها ضبط لانفعالاته وعواطفه وسلوكياته، وبالتزامها يستطيع العبد أن يَهنأ بحياة سعيدة طيبة.
تحقيق الإيمان
إن للإنسان دوافع نفسية وروحية لا ترتبط بسد حاجاته البدنية كالدوافع الفسيولوجية، ولا تتعلق بحفظ الذات وبقاء النوع، وإنما هي تسد حاجات نفسية وروحية، وهي حاجات أساسية للإنسان؛ لأن إشباعها يحقق له الحياة الآمنة المطمئنة السعيدة، والحرمان منها يؤدي إلى الحرمان من الأمن النفسي، وإلى الشقاء والقلق، والإنسان لديه استعداد فطري لمعرفة الله -تعالى- والإيمان به، قال -تعالى-: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان هذه الفطرة السوية: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟»، فالإنسان يولد ومعه هذا الاستعداد الفطري، الذي يحتاج إلى ما يظهره وينميه من تعليم وتوجيه وإرشاد، وهو ما يمثل الناحية البيئة المكتسبة التي تؤثر على أساس الفطرة السوية، وبهذا يتأكد أن تحقيق الإيمان وتطبيق شرائع الدين وأركانه من أهم الدوافع التي تؤثر على سلوك الإنسان، وتسد حاجة ضرورية في حياته، ويؤثر دافع العبودية لله -تعالى- على سلوك الإنسان الحركي واللفظي، وعلى نشاطه العقلي المعرفي، وعلى نشاطه الوجداني والانفعالي.
تحقيق الإيمان بالله -تعالى
لا يخفى على أحد أهمية الإيمان، وعظم شأنه، وكثرة عوائده وفوائده على العبد في الدنيا والآخرة، بل إن الخير كله متوقف على تحقيق الإيمان الصحيح، فهو أجلّ المطالب وأنبل الأهداف والمقاصد، وبه يحيا العبد حياة طيبة سعيدة، وينجو من المكاره والشدائد والشرور، ويحظى بالسعادة والحبور، وينال ثواب الآخرة والنعيم المقيم والسرور، والخير الدائم الذي لا يحول ولا يزول، قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة النحل: 97).
الإيمان شرط في صحة الأعمال
وفي قوله -تعالى-: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بيان أن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها، ولا تسمى الأعمال صالحة إلا بالإيمان، والإيمان مقتضٍ لها؛ فإنّ التصديق الجازم مثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات، ومن جمع بين الإيمان والعمل الصالح كانت له البشرى والحياة الطيبة؛ فقد علق الله -سبحانه- الحياة الطيبة السعيدة بتحقيق الإيمان في قوله -سبحانه-: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وهذه الحياة الطيبة تحصل له بطمأنينة قلبه وسكون نفسه وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه، ويرزقه الله رزقًا حلالًا طيّبًا من حيث لا يحتسب، ويحصل له في الآخرة أحسن الجزاء من أصناف اللذات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيؤتيه الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ويكون العبد بذلك قد فاز بالحياة الطيبة السعيدة في الدارين.
حديث عظيم
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، وقال - صلى الله عليه وسلم - في بيان أركان الإيمان: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه»، وفي بيان الإحسان قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، وهذا حديث عظيم مشتمل على السعادة كلها، وعلى خيري الدنيا والآخرة، وفيه تحديد المعنى من الحياة، والغاية من الوجود، وفيه بيان حيوية المسلم ونشاطه في استغلال أوقاته في الأمر الذي وجد له، وفيه ضبط المسلم لنفسه وتهذيبها بالالتزام بالطاعات واجتناب المعاصي، وفيه بيان للعلاج النفسي لكل أنواع العناء النفسي، فالإيمان الصادق أول علاج وأفضل سبيل للاطمئنان والسكينة، والصيام والحج من أقوى العلاجات وأكثرها فعالية في تدريب النفس وضبطها وكبح شهواتها في إطار الشرع، وفي الصيام والحج تعليق الفرح بالطاعة، وتعليق لأعياد المسلمين بعد تمام الطاعة؛ لأن الفرح الحقيقي مرتبط ارتباطا وثيقا بالطاعة وإنجازها.
وفي الحديث تربية للعبد على التسليم والرضا المصاحب لقوة الإيمان، ويقود العبد للسعادة في الدارين، وفيه دعوة للإحسان بأنواعه، فهو حديث مشتمل على فوائد عدة، ومن هذه الفوائد أنه مشتملٌ على أركان الإيمان الستة، وأوَّل هذه الأركان الإيمان بالله، وهو أساس للإيمان بما يجب الإيمان به، ولهذا أُضيف إليه الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، والقضاء والقدر، ومَن لَم يؤمن بالله لا يؤمن ببقيَّة الأركان.
التصديق بالقواعد الشرعية
والإيمان هو التصديق بالقواعد الشرعية، وهو أصل كل سعادة وسرور، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي: أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى»، ففي الحديث بشرى عظيمة تجعل المؤمن في سكينة وطمأنينة، فمهما أخطأ العبد فإن له ربا كريما يغفر وبقبل التوبة الصادقة، وبذلك لا ينقطع الأمل، ولا تنقطع الحياة والإيجابية في حياة العبد المسلم.
المرتكب لجنس الكبيرة
وفي هذا الحديث دلالة على أن المرتكب لجنس الكبيرة من المسلمين يدخل الجنة، وليس فيه ما ينفي أنه يعذب قبل ذلك، كما أنه ليس في آية {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة النور: 2) ما ينفي أنه قد يدخل الجنة بعد التعذيب على معصية الزنا، وهذا الحديث فيه بشرى من الله -تعالى- أن المؤمنين الذين حققوا شروط كلمة التوحيد يدخلون الجنة دار السعداء بفضل من الله ونعمته.
أثر الإيمان في تحقيق السعادة
أول أركان الإيمان ومصدر كل سعادة وخير هو الإيمان بالله -تعالى-، أي الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق والرازق والمحيي والمميت، وأنه المستحق للعبادة دونما سواه، وأن يُفرد بالعبادة والذل والخضوع وأنواع العبادات، وأنّ الله هو المتصف بصفات الكمال والعظمة، والجلال، المنزَّه عن كل عيب ونقص، والعبد إذا آمن بهذه الأمور وحقق الإيمان، عاش في سكينة وطمأنينة، وفي هناء وسرور، فهو يعلم أن الله بيده كل شيء، وأنه الخالق والرازق، والذي له كل صفات العظمة -سبحانه-، وهذا الاعتقاد يجعل العبد يعيش في سلام مع نفسه وفي إيجابية، كونه حدد الهدف من حياته، ويقوده هذا الإيمان أيضا إلى الإيمان بباقي الأركان وإلى تطبيق شرائع الدين، والاستقامة على دين الهداية والسعادة والسلام، والإيمان بالله -تعالى- يشمل أربعة أمور، «الإيمان بوجوده -سبحانه-، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته».
لاتوجد تعليقات