رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. سندس عادل العبيد 14 ديسمبر، 2020 0 تعليق

سيكولوجية السعادة في السّنّة النّبويّة – السعادة من ثمرات تحقيق الإيمان وتطبيق شرائع الدين

تحدثنا في المقال السابق عن مؤشرات السعادة في السّنّة النبوية، وقلنا: إنها خمسة مؤشرات عامة، تضم مؤشرات تفصيلية عدة، وهي: تحقيق الإيمان، وتطبيق شرائع الدين وأركانه، والتزام القيم الأخلاقية، وتحقيق النجاح في العلاقات الاجتماعية، والإنتاجية، والأنشطة والأهداف والاهتمامات، وأخيرًا ضبط النفس وتطويرها. واليوم نتناول تحقيق الإيمان، وتطبيق شرائع الدين وأركانه.

تحقيق الإيمان بالله -تعالى

      لا يخفى على أحد أهمية الإيمان، وعظم شأنه، وكثرة عوائده وفوائده على العبد في الدنيا والآخرة، بل إن الخير كله متوقف على تحقيق الإيمان الصحيح، فهو أجلّ المطالب وأنبل الأهداف والمقاصد، وبه يحيا العبد حياة طيبة سعيدة، وينجو من المكاره والشدائد والشرور، ويحظى بالسعادة والحبور، وينال ثواب الآخرة والنعيم المقيم والسرور، والخير الدائم الذي لا يحول ولا يزول، قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} (سورة النحل: 97).

الإيمان شرط في صحة الأعمال

     في قوله -تعالى- {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بيان أن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها، ولا تسمى الأعمال صالحة إلا بالإيمان، والإيمان مقتضٍ لها؛ فإنّ التصديق الجازم مثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات، ومن جمع بين الإيمان والعمل الصالح كانت له البشرى والحياة الطيبة، فقد علق الله -سبحانه- الحياة الطيبة السعيدة بتحقيق الإيمان في قوله سبحانه: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وهذه الحياة الطيبة تحصل له بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه، ويرزقه الله رزقًا حلالًا طيّبًا من حيث لا يحتسب، ويحصل له في الآخرة أحسن الجزاء من أصناف اللذات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيؤتيه الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ويكون العبد بذلك قد فاز بالحياة الطيبة السعيدة في الدارين.

السعادة الكاملة

     وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، وقال - صلى الله عليه وسلم - في بيان أركان الإيمان: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)، وفي بيان الإحسان قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

    وهذا حديث عظيم مشتمل على السعادة كلها، وعلى خيري الدنيا والآخرة، وفيه تحديد المعنى من الحياة، والغاية من الوجود، وفيه بيان حيوية المسلم ونشاطه في استغلال أوقاته في الأمر الذي وجد له، وفيه ضبط المسلم لنفسه وتهذيبها بالالتزام بالطاعات واجتناب المعاصي، وفيه بيان للعلاج النفسي لكل أنواع العناء النفسي، فالإيمان الصادق أول علاج وأفضل سبيل للاطمئنان والسكينة، والصيام والحج من أقوى العلاجات وأكثرها فعالية في تدريب النفس وضبطها وكبح شهواتها بإطار الشرع، وفي الصيام والحج تعليق الفرح بالطاعة، وتعليق لأعياد المسلمين بعد تمام الطاعة؛ لأن الفرح الحقيقي مرتبط ارتباطا وثيقا بالطاعة وانجازها.

أثر الإيمان بالله -تعالى- في تحقيق السعادة

     وأول أركان الإيمان ومصدر كل سعادة وخير هو الإيمان بالله -تعالى-، أي الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق والرازق والمحيي والمميت، وأنه المستحق للعبادة دونما سواه، وأن يُفرد بالعبادة والذل والخضوع وأنواع العبادات جميعها، وأنّ الله هو المتصف بصفات الكمال والعظمة، والجلال، المنزَّه عن كل عيب ونقص. والإيمان بالله -تعالى- يشمل أربعة أمور: الإيمان بوجوده -سبحانه-، الإيمان بربوبيته، الإيمان بألوهيته، الإيمان بأسمائه وصفاته.

أثر الإيمان بالملائكة في تحقيق السعادة

     والايمان بأن لله ملائكة موجودين، خَلق من خلقه، خُلقوا من نور، وهم خلقٌ كثيرٌ لا يعلم عددَهم إلّا الله -عزَّ وجلَّ-، وهم كما وصفهم الله: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} (سورة الأنبياء: 26)، ويسبحون الله الليل والنهار لا يفترون، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله بها كما تواترت بذلك النصوص من الكتاب والسّنّة، هذا الإيمان له الأُثر النفسي الكبير على شخصية المسلم، فهم عباد مكرمون لا يعصون الله أبدا ويفعلون ما يؤمرون، وهم جند الله سخرهم للمؤمنين حفظة ولتثبيت المؤمنين، ولهم وظائف عدة، فعندما يشعر العبد أن الله -سبحانه- سخر الملائكة لمساندة المؤمنين وتثبيتهم تسعد نفسه بهذه الجنود الربانية وهذا الدعم الإلهي.

أثر الإيمان بالكتب السماوية في تحقيق السعادة

     الإيمان بالكتب السماوية كلها، والتصديق الجازم بها، أحد جوانب الإيمان بالله -تعالى- وقدرته وحكمته، وتدبيره لأمور العباد، فهي من كلامه -سبحانه- حقيقة، وهي نور وهدى وهي حق منزل من الله، غير مخلوقة، وفيها سعادة العباد في الدارين، والقرآن الكريم هو المهيمن على كل الكتب السماوية السابقة وهو مخصوص من الله بالحفظ من التبديل والتغيير، وهو كلام الله المنزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ويؤمن العبد به تفصيلًا، فتُصدَّق أخبارُه، وتُمتثل أوامرُه، وتجتنب نواهيه، ويُتعبَّد الله طبقًا لِما جاء فيه وفي سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو المعجزة الخالدة التي تُحدِّي بها أهل الفصاحة والبلاغة، ولهذا التصديق بهذه الكتب جملة وبالقرآن تفصيلا الأثر العظيم على العبد، والتأثير الكبير على سلوكه وانفعالاته، وفي ضبط عواطفه، وتزكية دوافعه، مما يسوقه للسعادة الحقيقة.

أثر الإيمان بالرسل -عليهم السلام- في تحقيق السعادة

     الرّسل هم خير البشر، وهم الذين اصطفاهم الله لرسالاته، ومن أركان الإيمان التصديق الجازم بأنّ الله اصطفى رسلًا وأنبياء يهدون الناس إلى الحق، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، واقتضت حكمته -تعالى- أن يرسلهم إلى خلقه مبشّرين ومنذرين، فيجب الإيمان بهم جميعًا على وجه الإجمال، ويجب الإيمان بمن سمَّى الله منهم على وجه التفصيل، ويجب الإيمان بأنّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أفضلهم وخاتمهم، وأنّ رسالته عامة للثقلين ولا نبي بعده - صلى الله عليه وسلم  -، وللإيمان بالرسل الكرام الأثر الكبير على شخصية المسلم واتزانه، فهم القدوة الحسنة، وفي سيرهم أروع القيم والفضائل مثل الرضا، والصبر والإنجاز والتواضع، والأمانة، والإحسان، فهم خير البشرية الذين اختارهم الله لرسالاته.

أثر الإيمان باليوم الآخرفي تحقيق السعادة

     الإيمان باليوم الآخر عقيدة مهمة، وسبب مهم من أسباب السعادة، فإذا تيقن العبد أن هذه الدنيا دار اختبار، والآخرة دار القرار، سعى في الطاعات، وجاهد نفسه على ملازمة الطاعة والاستقامة، فبمهما يجد العبد سعادة الدّارين، وقد جاء في الحديث الشريف: «فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ». وعندما يعتقد المؤمن أن هناك دارًا آخرة يجازي الله فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويغفر الله ما دون الشرك لمن يشاء، ويقر بكلِّ ما جاء في الكتاب والسّنّة عن كلِّ ما يكون بعد الموت، ويتيقن أن الله جعل الدُّورَ دارين دار الدنيا والدار الآخرة، حينها يتحقق له الرضا النفسي.

أثر الرضا بالقضاء والقدر في تحقيق السعادة

     تسكن نفس العبد وتطمئن حينما يصدق بأنّ كلّ خير وشر هو بقضاء الله وقدره، وأنّ الله -تعالى- علم مقادير الأشياء وأزمانها أزلًا قبل إيجادها ثمّ أوجدها بقدرته، ومشيئته على وِفق ما علمه منها، وأنّه كتبها في اللّوح المحفوظ قبل إحداثها، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (سورة القمر: 49)، فالله -تعالى- علم بجميع الكائنات وأزمانها وأحوالها وأفعالها من خير أو شر، وكتب في اللوح المحفوظ كل ما يصدر من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان وكفر، وأطلع الملائكة على أحوال الإنسان قبل ظهوره إلى هذه الحياة عندما أمر الملك أن يكتب عليه أقداره وهو لا يزال في بطن أمه. والإيمان بهذه الأركان من أسباب السعادة؛ لأنّ تحقيق الإيمان متوقف على التصديق بكل أركان الإيمان، والمؤمن الحق الذي طلب السعادة ينشرح صدره لتعاليم الدين وقواعده، ويؤمن بما أمرنا الله أن نؤمن به.

 

  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك