رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: سليمان الصالح 25 يونيو، 2012 0 تعليق

رقة القلب من أعظم نعم الله على العبد

 

مرَّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه برجل يقرأ القرآن ويبكي فقال: هكذا كنا حتى قست قلوبنا! هذا أبو بكر رضي الله عنه وهو من هو ويقول هذا القول في أفضل القرون، فما بالنا بالعصور المتأخرة ومنها عصرنا الذي طغت فيه الماديات وقست القلوب ولم يرق منها إلا ما رحم الله صاحبه، وقسوة القلوب ضد رقتها، ورقة القلوب وخشوعها وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن وعطية من الديان تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزاً مكيناًَ وحصناً حصيناً من الغي والعصيان.

أما كيف ترق قلوبنا؟ وما نتائج هذه الرقة في حياة المسلم وثمراتها في الآخرة؟، وما هي أسباب قسوة القلوب وكيف التخلص منها؟ هذه التساؤلات يجيب عنها فضيلة الشيخ محمد مختار الشنقيطي من خلال محاضرة قيمة له هذا أوانها ومضمونها مما يحتاج إليه المسلم في زمن قست فيه القلوب.

من أعظم النعم

       يتحدث فضيلته عن نعمة رقة القلب وفوائدها وثمراتها، مبيناً أن صاحب القلب الرقيق من السابقين إلى الخيرات ومن المشمرين في الطاعات والمرضاة، فما رقَّ قلب لله عزَّ وجلَّ وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكّر إلا تذكّر، ولا بُصّر إلا تبصّر.

وما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئناً بذكر الله يلهج لسانه بشكره والثناء عليه سبحانه وتعالى.

وما رقَّ قلب لله عزَّ وجلَّ إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله عزَّ وجلَّ، فالقلب الرقيق قلب ذليل أمام عظمة الله وبطشه تبارك وتعالى.

القلب الرقيق هبة من الله

       ويؤكد الشيخ الشنقيطي أن رقة القلب نعمة وهبة من الله، فهو سبحانه الذي يهب رقة القلوب وانكسارها، وهو سبحانه الذي يتفضل بخشوعها وإنابتها إلى ربها وإذا شاء قلَبَ هذا القلب فأصبح أرق ما يكون لذكر الله عزَّ وجلَّ، وأخشع ما يكون لآياته وعظاته، فالقلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فتجد العبد أقسى ما يكون قلبا، ولكن يأبى الله إلا رحمته، ويأبى الله إلا حلمه وجوده وكرمه.

حتى تأتي تلك اللحظة العجيبة التي يتغلغل فيها الإيمان إلى سويداء ذلك القلب بعد أن أذن الله تعالى أن يصطفي ويجتبي صاحب ذلك القلب.

       فمن ديوان الشقاء إلى ديوان السعادة، ومن أهل القسوة إلى أهل الرقة بعد أن كان فظاً جافياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، إذا به يتوجه إلى الله بقلبه وقالبه، إذا بذلك القلب الذي كان جريئاً على حدود الله عزَّ وجلَّ وكانت جوارحه تتبعه في تلك الجرأة إذا به في لحظة واحدة يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يتغير لكي يصبح متبصّراً يعرف أين يضع الخطوة في مسيره.

فويل للقاسية قلوبهم

       رقة القلب إذاً – كما يؤكد فضيلة الشيخ – هي النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمة أجل ولا أعظم منها، نعمة رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى. وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ أنه ما من قلب يُحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعوداً بعذاب الله، قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ}.

       ويل: عذاب ونكال لقلوب قست عن ذكر الله، ونعيم ورحمة وسعادة وفوز لقلوب انكسرت وخشعت لله تبارك وتعالى؛ لذلك ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر كيف السبيل لكي يكون قلبه رقيقا.

نعم.. كيف السبيل إلى هذه النعمة؟

       كم من أخيار تنتابهم بعض المواقف واللحظات يحتاجون فيها إلى من يرقق قلوبهم، فالقلوب شأنها عجيب وحالها غريب، تارة تقبل على الخير، وإذا بها أرق ما تكون لله عزَّ وجلَّ وداعي الله، لو سُئلت أن تنفق أموالها جميعا لمحبة الله لبذلت، ولو سئلت أن تبذل النفس في سبيل الله لضّحت.

       إنها لحظات ينفح فيها الله عزَّ وجلَّ تلك القلوب برحمته.وهناك لحظات يتمعر فيها المؤمن لله تبارك وتعالى، لحظات القسوة، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه ويتألم فيها فؤاده حتى يكون أقسى من الحجر والعياذ بالله.

هذه أسباب رقة القلب

       ويبيِّن فضيلة الشيخ الشنقيطي أن للرقة أسباباً، الله تبارك وتعالى تكرَّم وتفضَّل بالإشارة إلى بيانها في الكتاب، فما رق القلب بسبب أعظم من سبب الإيمان بالله تبارك وتعالى. ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقاً لله عزَّ وجلَّ، وكان وقّافاً عند حدود الله. لا تأتيه الآية من كتاب الله، ويأتيه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال بلسان الحال والمقال: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.

       وما من عبد عرف الله بأسمائه الحسنى وتعرف على هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إلا وجدته إلى الخير سباقا، وعن الشر محجاما.

       فأعظم سبب تلين به القلوب لله عزَّ وجلَّ وتنكسر من هيبته المعرفة بالله تبارك وتعالى، أن يعرف العبد ربه، وأن يعرفه، وما من شيء في هذا الكون إلا ويذكّره بذلك الرب، فمن عرف الله رقَّ قلبه من خشية الله تبارك وتعالى.

       والعكس بالعكس، فما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عزَّ وجلَّ، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله وعذاب الله، وأجهلهم بنعيم الله عزَّ وجلَّ ورحمة الله.

حتى إنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكون من رحمة الله، وأيأس ما يكون من روح الله - والعياذ بالله - لمكان الجهل بالله.

       لذلك فالمعرفة بالله عزَّ وجلَّ طريق لرقة القلوب؛ ولذلك كلما ما وجدت الإنسان يديم العبرة، يديم التفكر في ملكوت الله، وجدت قلبه فيه رقة، ووجدت قلبه فيه خشوع وانكسار إلى الله تبارك وتعالى.

النظر في آيات كتاب الله

       ويؤكد الشيخ الشنقيطي أن النظر في آيات كتاب الله من أسباب حصول رق القلوب، النظر في كتاب وصفه الله بقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }.

       ما قرأ العبد تلك الآيات وكان عند قراءته حاضر القلب متفكراً متأملاً إلا وجدت العين تدمع، والقلب يخشع والنفس تتوهج إيماناً من أعماقها تريد المسير إلى الله تبارك وتعالى، وإذا بأرض ذلك القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طرية للخير ومحبة الله عزَّ وجلَّ وطاعته.

       وما قرأ عبد القرآن ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها والتأمل فيها رقيقا قد اقشعر قلبه واقشعر جلده من خشية الله تبارك وتعالى: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.

       هذا القرآن عجيب، فبعض الصحابة تُليت عليه بعض آيات القرآن فنقلته من الوثنية إلى التوحيد، ومن الشرك بالله إلى عبادة رب الأرباب سبحانه وتعالى في آيات يسيرة.

       هذا القرآن موعظة رب العالمين وكلام إله الأولين والآخرين، ما قرأه عبد إلا تيسّرت له الهداية عند قراءته؛ ولذلك قال الله في كتابه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.

 وما أدمن قلب، ولا أدمن عبد على تلاوة القرآن، وجعل القرآن معه إذا لم يكن حافظاً يتلوه آناء الليل وآناء النهار إلا رقَّ قلبه من خشية الله تبارك وتعالى.

تذكر البداية والنهاية

       ومن الأسباب التي ذكرها الشيخ الشنقيطي وتعين على رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى، تذكر الآخرة، أن يتذكر أن لكل بداية نهاية، وأنه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.

فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة وأن المتاع فان وأنها غرور حائل، دعاه ذلك إلى أن يحتقر الدنيا ويقبل على ربه إقبال المنيب الصادق وعندها يرق قلبه.

ومن نظر إلى القبور ونظر إلى أحوال أهلها انكسر قلبه، وكان قلبه أبرأ ما يكون من القسوة ومن الغرور والعياذ بالله.

       ولذلك لن تجد إنسانا يكثر من زيارة القبور مع التفكر والتأمل والتدبر، إذ يرى فيها الآباء والأمهات والإخوان والأخوات، والأصحاب والأحباب، والإخوان والخلان، ما نظر عبد هذه النظرات ولا استجاشت في نفسه هذه التأملات إلا اهتز القلب من خشية الله وانفطر هيبة لله تبارك وتعالى، وأقبل على الله إلى الله تبارك وتعالى إقبال صدق وإنابة وإخبات.

أسباب قسوة القلوب

       وتحول الشيخ الشنقيطي بالحديث عن أسباب قسوة القلب لأن التخلص من هذه القسوة يعني التحول إلى رقة القلب، فأعظم داء يصيب القلب داء القسوة والعياذ بالله، ومن أعظم أسباب القسوة بعد الجهل بالله تبارك وتعالى: الركون إلى الدنيا والغرور بأهلها، وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها، فإن هذا من أعظم الأسباب التي تقسي القلوب والعياذ بالله تبارك وتعالى.

إذ اشتغل العبد بالأخذ والبيع، واشتغل أيضاً بهذه الفتن الزائلة والمحن الحائلة، سرعان ما يقسو قلبه؛ لأنه بعيد عمن يذكره بالله تبارك وتعالى.

فلذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يوغل في هذه الدنيا أن يوغل برفق، فديننا ليس دين رهبانية، ولا يحرم الحلال سبحانه وتعالى، ولم يحل بيننا وبين الطيبات.

ولكن رويداً رويدا فأقدار قد سبق بها القلم، وأرزاق قد قضيت يأخذ الإنسان بأسبابها دون أن يغالب القضاء والقدر.

       فلذلك من أعظم الأسباب التي تستوجب قسوة القلب الركون إلى الدنيا، وتجد أهل القسوة غالباً عندهم عناية بالدنيا، يضحون بكل شيء، يضحون بأوقاتهم، يضحون بالصلوات، ولكن لا تأخذ هذه الدنيا عليهم، لا يمكن أن يضحي الواحد منهم بدينار أو درهم منها؛ فلذلك دخلت هذه الدنيا إلى القلب، والدنيا شُعب، ولو عرف العبد حقيقة هذه الشُعب لأصبح وأمسى ولسانه يلهج بذكر ربه.

ومن أسباب قسوة القلوب، بل من أعظم أسباب قسوة القلوب، الجلوس مع الفساق ومعاشرة من لا خير في معاشرته.

       ولذلك ما ألف الإنسان صحبة لا خير في صحبتها إلا قسا قلبه من ذكر الله تبارك وتعالى، ولا طلب الأخيار إلا رققوا قلبه لله الواحد القهار، ولا حرص على مجالسهم إلا جاءته الرقة شاء أو أبى، جاءته لكي تسكن سويداء قلبه فتخرجه عبداً صالحاً مفلحاً قد جعل الآخرة نصب عينيه.

لذلك ينبغي للإنسان إذا عاشر الأشرار أن يعاشرهم بحذر، وأن يكون ذلك على قدر الحاجة حتى يسلم له دينه، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك