رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: عبدالحق التركماني 13 يونيو، 2017 0 تعليق

رداً على التفسير النفعي للعبادات(2) الصيام لم يشرع لتعذيب النفس وإيذائها وإنما لتحقيق العبودية لله إخلاصاً واحتساباً


تحدثنا في المقال السابق عن ضرورة تصحيح النيَّة، وتحقيق الإخلاص لله عزَّوجلَّ في الصيام، والحذر من كلِّ ما يُفسد النيةَ، وينافي الإخلاص، وذكرنا أن من هذه الأمور التي تقدح في النية والإخلاص ما ظهر في هذا العصر من النظرة النفعية للصيام، وذكرنا أن الصيام شُرع لتقوى الله وعبادته، وليس فيه ذكر فائدة صحية أو نفسية أو اجتماعية، واستكمالا لهذه المسألة نقول: إنه ممَّا يؤكد على أن الغاية من الصيام: هي تقوى الله، النصوصُ الكثيرة التي أكَّدت على تحقيق معاني الإخلاص وصدقِ التوجُّه إلى الله وابتغاءِ مرضاته في هذه العبادة- عبادةِ الصيام-؛ لهذا كان الصيامُ من أجلِّ العباداتِ التي تتحقَّقُ فيها هذه المعاني.

الصيام من أركان الإسلام

     والصيام من أركان الإسلام؛ ففيه التذللُ والخضوع بمحبَّةٍ وإخلاصٍ لله سبحانه؛ بحبس النفس عن الطعام والشراب والشهوات، وبالتقيُّدِ بما شرعه سبحانه من أحكام الصيام وصفتِه، ومراقبته وتقواه في السِّرِّ والعلن؛ لهذا خصَّ الله -تعالى- الصيامَ بخصيصةٍ لم يجعلها في سائر العبادات، كما أخبر بذلك النبيُّ  صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «قال الله عز وجل: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصَّومُ، فإنَّه لـي، وأنا أجزي به» أخرجه البخاري في صحيحه، وفي رواية أخرى عنده أيضًا: «يتركُ طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي، الصيامُ لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها»، وقد بحث العلماء معنى تخصيص الصيام بهذه الإضافة الشريفة: «إلا الصوم، فإنه لي»، «الصيام لي، وأنا أجزي به»..

فقال بعض العلماء: إنَّما خصَّ الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب؛ وذلك لأنَّ الأعمالَ كالصلاة والزكاة والحج لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تَخفَى عن الناس.

ووجه هذا: أن أعمالَ بني آدم لما أمكنَ دخولُ الرِّياءِ فيها: أُضيفتْ إليهم، بخلاف الصوم فإنَّ حالَ الممسك شِبَعًا مِثلُ حالِ الممسكِ تقرُّبًا في الصُّورةِ الظاهرة، وإنما الفرقُ بين الاثنين: في النية والإخلاص.

     والقول الآخر في معنى الحديث: «إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به..»، أي: انفرد بعلم مقدارِ ثوابِه وتضعيفِ حسناته؛ لأن الأعمال قد كُشفتْ مقادير ثوابِها للناس، وأنها تُضاعَف من عشرةٍ إلى سبعِ مئةٍ، إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يُثيب عليه بغير تقدير؛ لأن الصيام فيه الصبر وحبس النفس، والله -تعالى- يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}..

ويدلُّ على هذا المعنى: روايةٌ لهذا الحديث عند مسلمٍ في صحيحه، ففيها: «كلُّ عمل ابن آدم يُضاعَفُ، الحسنةُ بعشر أمثالها، إلى سبعِ مئةِ ضِعْفٍ. قال الله -تعالى-: إلا الصومُ فإنَّه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوتَه وطعامه من أجلي..».

ولنتأمَّلْ ذلك الحديثَ الشريفَ الذي نسمعه في كلِّ رمضانَ، ألا وهو قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه». أخرجه البخاري ومسلم، لنتأمل هذا الحديثَ، ولنقف طويلاً عند هذا القيد: «إيمانًا واحتسابًا»، إيمانًا: أي تصديقًا بفريضة الله وشريعته، وبما وعد به من الثواب.

احتسابًا: أي طلبًا للأجر من الله -تعالى- فينوي بصيامه وجه الله. فهذا الحديث دليل بيِّنٌ على أنَّ الأعمال الصالحةَ لا تزكو ولا تُتَقبَّل إلا مع الاحتساب وصدق النيَّات، كما قال -عليه السلام-: «إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».

     والمقصودُ: أَنَّه لا معنى للصوم ولا غايةَ منه سوى إقامةِ العبودية لله -عزَّ وجلَّ- باتباع أوامرِه واجتنابِ نواهيه، وهذا العملُ إذا اقترن بالصدق والإخلاص والاحتساب زاد صاحبَه إيمانًا ومراقبةً لربِّه وتعظيمًا لشرعه، فيتَّقي الله -عزَّ وجل- حقَّ التقوى وهو أعلى درجات العبودية لله -عزَّ وجل- كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}..

قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في تفسير: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، قال: «أن يطاع فلا يُعصَى، ويُذكر فلا يُنسَى، ويُشكر فلا يُكفر»..

عبادة محضة لله عزوجلَّ

     يتبيَّن لنا من دلائل الكتاب والسنة: أنَّ الصيام عبادة محضة لله -عز وجلَّ- وأن الله -تعالى- أضاف الصيام لنفسه المقدَّسة لما فيه من تحقُّق معنى الإخلاص والصدق مع الله، وبيَّن في كتابه العزيز أن الغاية من الصيام هي (التقوى)، فإن كان الصيام وسيلة لشيء من الأشياء فهو وسيلة إلى (التقوى)؛ فليس للصيام غاية ولا مقصِد ولا هدفٌ سوى التعبُّد لله -تعالى- والتَّرقي في مدارج العبوديَّة حتَّى يبلغ العبدُ درجاتِها العلا، وهي: التَّقوى.

أما الأمر الثاني: وهو أنَّ الله -تعالى- رخَّصَ للمريض في الإفطار، فهذا أيضًا يدلُّ على أنَّه ليست الغايةُ من الصيام منفعة دنيوية كالاستشفاء من الأمراض، وإلا لم يُشرع للمريض أن يفطر، بل لوجب عليه أن يستمر في صومه بنية التداوي والشفاء!

ففي قول ربنا -سبحانه-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

في هذا دلالة ضمنية على إِضراره بالمريض، وإلا لكان المريضُ أولى الناس في أن يُؤمر بالصيام ليتخلَّص مِن مرضه!

الصيام لم يُشرَع لتعذيب النفسِ

فإذا تبيَّن هذا: فمن نافلة القولِ: أنَّ الصيام لم يُشرَع لتعذيب النفسِ ولا لإيذائها، كما أنَّه لم يُشرَع لوجود فوائدَ صحيَّةً ونفسيَّةً واجتماعيَّة فيه. ومن ادَّعى أنه شُرعَ لأحد هذين الغرضين أو لسواهما من المقاصد الدنيوية المادية فقد أعظم الفرية على الله عزَّ وجلَّ، وخالف صريحَ القرآن، وحرَّف دينَ الإسلام، وخرج عن سبيل المؤمنين.

فقد رخَّص الله -تعالى- للمريض بالإفطار، ونصَّ على ذلك في كتابه حتَّى لا يكون لأحدٍ من الفريقين سبيل إلى تحريف الدين ومقاصده:

- الفريق الأول: فريقُ المتنطِّعين الذين يرون غاية الصيام في تعذيب الجسد وإيذائه.

- والفريق الثاني: فريقُ المستخفِّين الذين يرون الصيام وسيلةً لتحقيق المصلحة للمجتمع الإنسانيِّ من خلال تدريبه وتربيته على الصبر والفضائل.

ولا شكَّ أن الصَّوم المعتدل له فوائدُ صحيَّة ونفسيَّة واجتماعية كثيرة، ثابتةٌ بالتجربة والمشاهدة، إلا أنَّها ليست غايةَ الصوم ولا مقصدَه، ولكنَّها من ثماره ونتائجه وآثاره، وهي ممكنةٌ لا واجبة، فقد تتحقَّق وقد تتخلَّف، وقد يصوم شخص فتتحسَّنُ صحته ويتخلَّص من كثير من الأمراض والأوجاع، وقد يصوم آخر فيصاب بأمراضٍ مهلكةٍ.

الفرق بين الصوم التعبدي والصوم الطِّبي

ثم إن هناك فرقًا بين الصوم التعبدي والصوم الطِّبي أو الصحي:

- أولاً: من جهة النية. فالصيام لا ينتفع المسلمُ به يوم القيامة إلا إن كان بنية وإخلاص، أما الصيام الطِّبي فينتفع الإنسان في الدنيا بمجرد صيامه.

- ثانيًا: الإسلام: فالصيام التعبدي لا يُقبل إلا من مسلم، والصيام الصحي يَنفع المسلم والكافر.

- ثالثًا: من جهة الوقت: فقد جعل الله للصيام حدًّا زمنيًّا، نتعبَّد الله -تعالى- بالتزامه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}.. فإن أفطر قبل غروب الشمس بدقيقة أو دقيقتين كان صيامُه باطلا، مع أنه ليس لذلك تأثيرٌ على صحته، بخلاف الصيام الصحي؛ فإنَّ تقديرَ وقتِه ومدَّتِه وعددِ أيامه متروكٌ لرأي الأطباء يجتهدون فيه كما يشاؤون.

- رابعًا: من جهة المحظورات: فإنَّ الصائم تعبُّدًا يمتنع في عبادته عن الطعام والشراب كليًّا، أما الصائم استشفاءً: فقد يصوم عن الطعام لا الشراب، وقد يصوم عن بعض الأطعمة أو بعض الأشربة لا عن كلها، حسبما يرشده الطبيب.

- إذاً: الصيامُ التعبديُّ: ليس فيه مجال للاجتهاد، ولا مجال للتقديم والتأخير، أو الإطالة أو التقصير، بل لا يصحُّ ولا يُقبل عند الله -عز وجل- إلا إذا أداه المسلمُ كما شرعه الله بنية التعبد لله؛ ولهذا إذا وجَدَ الإنسانُ مشقَّةً في الصوم، فإنه لا يجتهدُ في تغيير مدَّةِ الصيام، أو صفته، وإنَّما يُفطر، ولا حرج عليه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله- في (المغني): «أجمع أهل العلم على إباحة الفِطْر للمريض في الجملة، والأصل فيه هذه الآية».

وسبب هذه الرُّخصةِ: أنَّ الغرضَ من الصيام التعبد لله -تعالى- بالمحبة والتذلل والتقرب، فإذا وُجدت مشقة غير معتادة فإن الإنسان لضَعْفه لا يستطيع تحقيقَ هذه العبودية، فالصَّوم فيه مشقةٌ وتعب وضعف؛ لهذا قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في بيان أنَّ مدار الصحة على حفظ القوة وغيرها من الأسباب ـ:

 فأما حفظ القوة: فإنَّه -سبحانه- أمر المسافرَ والمريضَ أن يُفطرا في رمضان، حفظًا لقوَّتهما عليهما، فإنَّ الصومَ يزيدُ المريضَ ضعفًا، والمسافرُ يحتاج إلى توفير قوَّته عليه لمشقَّة السفر، والصوم يُضْعِفُها.

فإذا علمنا هذا: علمنا أيضًا بطلان ما يذكره أولئك الدعاة الذين يفسرون الصيام تفسيرًا نفعيًّا: من اقتران الصيام بالجهاد، وهذا ما ذكره الدكتور السباعي أيضًا في سياق كلامه عن حقيقة الصَّوم، فقال عن المسلمين في غزوة بدر بعد أن بيَّن أنها وقعت في رمضان:

«أفترونهم استطاعوا أن يُحرزوا هذا النَّصرَ لولا أنَّ الصيام بثَّ فيهم من القوَّة، ونُصرة الحق، والحريةِ الرُّوحية الكاملة؛ ما جعلَهم يخوضون المعركةَ أقوياءَ أحرارًا؟».

     وهذا خطأٌ، ومجانبة للحقيقة، ومخالفة للحقائق الشرعية والتاريخية، نعم: نحن نعلم أنَّ لشهر رمضانَ فضيلةً عظيمة، ومنزلةً رفيعة، فهو شهر الصيام والقيام، شهرُ القرآن، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فلا عجب أن يُنْزِلَ الله -تعالى- على عباده المؤمنين في هذا الشهر المبارك: رحماتِه وبركاتِه، فينصرهم ويؤيدهم، ويفرِّج عنهم، ويلطف بهم، ويرحم حالهم..

أما الصيام فلا يناسب الجهاد أبدًا؛ لأن في كلٍّ منهما مشقَّةً، فكيف إذا اجتمعا؟!

لقد كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان، وكذلك فتح مكة، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد أفطر وأمر أصحابه بالفطر، كما ثبت في الصحيحين، وقال لأصحابه في طريقه إلى مكة: «إنَّكم قد دنَوْتُم من عدوِّكم، والفِطْرُ أقوى لكُم»، ثم قال لهم: «إنَّكم مصبِّحو عدوِّكم، والفِطْرُ أقوَى لكم، فأفطِروا». كما في صحيح مسلم.

وفي صحيح مسلم أيضًا: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج عام الفَتْحِ في رمضان، فصامَ حتَّى بلغ كُراعَ الغَمِيم وهو مَوْضِعٌ بين مَكَّة وَالمدِيْنَة وصام النَّاس، ثُمَّ دعا بقَدَحٍ من ماء، فرفعَه حتَّى نظر النَّاسُ ثُمَّ شرب، فقيلَ له بعد ذلك: إنَّ بعض النَّاس قد صام! فقال: «أولئِك العُصاة».

وفي سنن أبي داودَ في حديث صحيح: أَمَر النَّاسَ في سفرِه عامَ الفتح بالفِطْر، وقال: «تَقَوَّوْا لعدوِّكم».

     وهذا كلُّه مفهوم، ومعقول، ومجرَّب محسوس أيضًا، فإن الصيام يُرهق الإنسان، ويضعفه عن القيام بالأعمال الشاقة، فكيف بالجهاد في سبيل الله، لهذا لما وقعتْ (معركة شَقْحَبْ) بين المسلمين والتتار قريبًا من دمشق، وكان ذلك في رمضان، سنة اثنتين وسبع مئة، أفتى شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الناسَ بالفطر مدَّةَ قتالهم، وأفطر هو أيضًا، مع أنهم لم يكونوا على سفر، وإنما أفطروا للجهاد، وكان -رحمه الله- يدورُ على القادة والأمراء، فيأكلُ من شيءٍ معه في يده، ليُعْلِمَهم أنَّ إفطارَهم ليتقَوَّوْا على القتال أفضلُ، كما ذكره ابن كثير رحمه الله.

حديث منكر

أما الحديث المشتهر على الألسنة: «صوموا تصحُّوا».. فهو حديث منكر، لا يصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضعَّفه الحافظ العراقي والعلامة الألباني -رحمهما الله- من جهة الإسناد، وهو باطل من جهة المعنى لمخالفته للكتاب والسنة، ثم هو محرَّف من حديث آخر ضعيفٍ أيضًا بلفظ: «سافروا تصحُّوا».

لهذا أقول لإخواني المسلمين، وأخواتي المسلمات: لا تصوموا لتصحوا، ولكن صوموا لتتَّقوا الله -تعالى- وتطيعوه، وتبتغوا إليه الوسيلة، فتنالوا رضاه، وتدخلوا في رحمته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

أسأل الله -تعالى- أن يوفقني وإياكم لصيام رمضان وقيامه، إيمانًا واحتسابًا، خالصًا لوجهه الكريم، ويتقبله منَّا بمنِّه وكرمه وإحسانه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين..

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك