رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عبد المنعم الشحات 23 فبراير، 2015 0 تعليق

دروس من «المحنة السلفية الأولى» السلفيون والدولة (1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

تمهيد:

مِن المسائل التي تبدو عصية على فهم بعضنا في «المنهج السلفي» نقاؤه المنهجي الذي يظن مَن يَطـَّلع عليه للوهلة الأولى أن مَن يعتقده فلن يقيم وزنًا لأي شيء آخر، وربما أكَّدت هذه النظرة بعض التصرفات التي ينتسِب أصحابها إلى السلفية.

في حين أن هذا المنهج يتمتع بمرونة عالية جدًّا في شأن التطبيق العملي «إذا تعارض مع ما هو أولى منه» بما يعرف بـ(قضية المصالح والمفاسد)، التي لا نكون مبالغين إذا قلنا: «إنها القاعدة الأم في باب السياسة الشرعية».

     ومِن ذلك: موقف السلفيين من دولهم، وحرصهم على استقرارها؛ رغم أن الأمر ومنذ انتهاء الخلافة الراشدة لا يخلو مِن مخالفاتٍ ازداد منحاها في الجملة إلا في فترات نادرة من التاريخ، التي سار فيها المنحنى في اتجاه آخر حتى كان قمة هذا التباين بينهم وبين الدولة العثمانية؛ ومع هذا كانوا هم مَن بقي مدافعًا عنها «وهي تحاربهم!» حتى سقطت بسبب ما أنكره عليها السلفيون مِن بدع وانحرافات!

     ثم كانت الدولة الحديثة فازدادت الغربة وتعمقت، ومع هذا بقي ميزان «المصلحة والمفسدة» حاكمًا لموقف السلفيين من دولهم، ولعل التجربة الأهم في هذا هو ما يمكن أن نطلق عليه: «المحنة السلفية الأولى».

     كما أن هناك مِن الجماعات مَن يعدد محنه مع الأنظمة في العصر الحديث؛ ولأن (السلفية) أسبق؛ فقد كانت محنتها أسبق أيضًا، وأرست فيها قواعد بقيت نبراسًا في كل الفتن التي تلتها؛ حتى وإن كانت لا تماثلها في الشدة.

    وأعني بتلك المحنة السلفية الأولى (محنة الإمام أحمد) -رحمه الله-؛ إذ هي السابقة الأولى في تاريخ الإسلام التي تتبنى فيها الدولة وأجهزتها مذهبا مخالفًا لأهل السنة، بل وتمتحن العلماء والعامة في هذا المذهب ثم تمارس تمييزًا وإقصاءً ضد كل مَن تمسَّك بالسُّنة، وتعذب رموز السنة وتؤذيها؛ أملاً منها في اقتلاع ذلك المذهب الذي يستند إلى أصول راسخة، وقواعد شعبية رأى الخليفة (المأمون) أنه لا بد مِن إجبارهم على المذهب الفلسفي المعتزلي الذي أوقع فيه نفسه.

ويمكننا أن نلخِّص أهم معالم منهج الإمام (أحمد) -رحمه الله- في هذه المسألة:

1- تبني الدولة لمذهب باطل لا يجعله حقـًّا؛ وهو يعطي الرخصة لآحاد الناس في المداراة متى أُكرِه على هذا، ولكن العلماء عليهم بيان الحق.

2- عدم التشوف إلى تكفير المخالِف ولاسيما مِن الحكام «وإن آذى وظلم»؛ لما في ذلك مِن مراعاة لحق (لا إله إلا الله)، وتطبيقًا للقواعد الشرعية في العذر بالتأويل.

3- عدم الدعوة إلى إسقاط الدولة بزعم ظلمها، بل نهي مَن أراد ذلك عنه.

4- عدم ترك الدعوة إلى الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

5- وجوب مراعاة المصالح والمفاسد أيضًا حال تلك الدعوة، ومنه استعمال الرفق في خطاب الحكام أكثر مِن غيرهم دون إخلال بأصل قضية بيان الحق.

وإليك عرض للقصة، ثم بيان للمواطن التي يُستفاد منها هذه الدروس:

القصة مشهورة معلومة، وقد وجدتُ ملخصًا جيدًا لها على بعض المواقع فزدته اختصارًا؛ لتعبِّر لنا وبما يسمح به حجم المقالة عن قصة هذه المحنة الأولى، وهي في فصول:

الفصل الأول: أصل المحنة:

    كان المسلمون أمة واحدة، وعقيدتهم صحيحة وصافية مِن معين النبوة، حتى وقعت الفتنة الكبرى وقتل عثمان -رضي الله عنه- مظلومًا شهيدًا؛ فتفرقت الكلمة، وظهرت الشرور، وتمت وقعة (الجمل) ثم (صفين) وبدأت البدع في الظهور، وحدث أول انحراف في تاريخ العقيدة الإسلامية بظهور فرقة (الخوارج) التي كفـَّرت الصحابة خير الناس، ثم أخذت زاوية الانحراف في الانفراج؛ فظهرت فرقة (الروافض)، وكلما ظهرت فرقة مبتدعة ظهرت في المقابل لها وعلى النقيض منها فرقة أخرى؛ الأولى تغالي والأخرى تعادي، فكما ظهرت فرقة (الخوارج) ظهرت فرقة (المرجئة) التي أخَّرت العمل وقالت: «إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط»؛ فجعلت إيمان أفجر الخلق كإيمان أتقاهم!

     وكما ظهرت فرقة (الروافض) ظهرت قرقة (النواصب)، وكما ظهرت فرقة (القدرية) نفاة القدر؛ ظهرت فرقة (الجبرية) التي تنفي أي اختيار وإرادة للإنسان، وكما ظهرت فرقة (المعتزلة والجهمية) نفاة الصفات؛ ظهرت فرقة المجسمة الذين يشبهون صفات الخالق بالمخلوق! ولكن كل هذه الفرق الضالة كانت «مقهورة» بسيف الشرع، وقوة السنة، وسلطان الدولة الأموية ثم العباسية، وقد ظل المبتدعون في «جحر ضب» مختفين بضلالهم، لا يرفع أحد منهم رأسًا ببدعة أو بضلالة حتى ولي (المأمون) العباسي، وكان محبًا للعلوم العقلية وكلام الفلاسفة الأوائل.

     فبنى دارًا لترجمة كتب فلاسفة اليونان وأسماها: (بيت الحكمة!)؛ فأخذت أفاعي البدع تخرج مِن جحورها، وأخذت في التسلل بنعومة إلى بلاط (المأمون)، ثم التفت حول عقله ولعبت به، ونفثت سموم الاعتزال في رأسه، ونفق عليه رجال من عينة (بشر المريسي)، و(أحمد بن أبي دؤاد) رأس الفتنة ومسعرها، وغيرهما؛ حتى مال (المأمون) لقولهم، واعتنق مذهب الاعتزال الذي يقوم على أصول عدة مِن أقبحها: «نفي صفات الله وتعطيلها!»، وأبرز معالم نفي الصفات القول بأن (القرآن مخلوق!).

     وظل (المأمون) معتنقًا لهذه العقيدة الضالة، ولا يجبر أحدًا على اعتناقها، ويتردد ويراقب الشيوخ والعلماء والمحدثين وهو يخشى مكانتهم وتأثيرهم على جماهير المسلمين، وفي الوقت نفسه يحاول استمالة مَن يقدر على استمالته منهم، فلما رأى إعراض العلماء عن القول ببدعته زيَّن له (أحمد بن أبي دؤاد) أن يجبر العلماء؛ وذلك بقوة الدولة، وحد التهديد والوعيد، وبالفعل في سنة 218هـ أمر (المأمون) قائد شرطة بغداد أن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين ويمتحنهم في القول بخلق القرآن، وقرأ عليهم كتاب (المأمون) الذي يفيض بالتهديد والوعيد، وقطع الأرزاق، والعزل مِن المناصب لمن يرفض القول بـ(خلق القرآن)؛ ومِن يومها بدأت فصول المحنة العظمى التي تحمَّل الإمام (أحمد بن حنبل) -رحمه الله- وحده عبئها، والوقوف في وجه أربابها ودعاتها.

الفصل الثاني: الإمام (أحمد) و(المأمون) العباسي:

      حُمِلَ الإمام (أحمد) ومَن معه مِن العلماء إلى دار السلطان، وأخذ (إسحق بن إبراهيم) قائد الشرطة في امتحانهم، ومع جدية التهديد أخذ العلماء الواحد تلو الآخر يجيب بالقول بخلق القرآن؛ فلما رأى (أحمد بن حنبل) الناس يجيبون؛ غضب لله -عز وجل- وجهر بالحق، وبعد أول يوم لامتحان العلماء عاد الإمام (أحمد بن حنبل) إلى مسجده، وقعد للدرس والتحديث؛ فالتف حوله الناس، وسألوه عما جرى، وألحوا في معرفة مَن أجاب مِن العلماء في هذه المحنة، فرفض بشدة، وكره الإجابة عن هذا السؤال، ولكن الأمر قد انتشر بسرعة بين الناس، وعُرف مَن أجاب ممن رفض.

     ووصلت أخبار الامتحان للخليفة (المأمون)، وكان وقتها مقيمًا بطرسوس على الحدود مع الدولة البيزنطية؛ فتغيظ بشدة ممن رفض القول بخلق القرآن، وطلب مَن قائد شرطته (إسحق بن إبراهيم) أن يجمع العلماء مرة أخرى ويمتحنهم، ويشتد في التهديد والوعيد، وبالفعل اشتد (إسحق) في التهديد حتى أجاب كل العلماء ما عدا أربعة: (أحمد بن حنبل)، و(محمد بن نوح)، و(القواريري)، و(سجَّادة)؛ فقام (إسحق) بحبسهم وتهديدهم بالضرب والحبس، فأجاب (سجَّادة)، و(القواريري)؛ فخرجا من السجن، وبقي (أحمد بن حنبل) و(محمد ابن نوح)؛ فأرسل بخبرهما (إسحق) إلى الخليفة (المأمون) الذي استشاط غضبًا، وأمر بحملهما مقيدين زميلين إلى طرسوس، وقد أقسم ليقتلنهما بيده إذا لم يجيبا في هذه الفتنة، بل أشهر سيفًا ووضعه بجانبه استعدادًا لقتلهما إذا أصرا على الرفض.

     حُمِل (أحمد بن حنبل) و(محمد بن نوح) مِن بغداد إلى طرسوس، وفي الطريق وقعت حوادث عدة كان لها أثر كبير في تثبيت الإمام (أحمد) ورفيقه، ودللت أيضًا على أن الناس كانت كلها وراء الإمام وتؤيده وإن كانت لا تملك له شيئًا، فقد قابله بالرحبة -موضع على شاطئ الفرات على بعد مائة فرسخ من بغداد- رجل من عامة المسلمين يعمل في غزل الصوف والشعر، قد جاء لمقابلته خصيصًا من بادية العراق ليقول له: «يا أحمد، إن يقتلك الحق متَّ شهيدًا، وإن عشت عشت حميدًا، وما عليك أن تقتل ها هنا وتدخل الجنة»؛ فقوى قلب الإمام (أحمد) بهذه الكلمات.

     ثم بعد فترة استراح الركب في خانٍ بالطريق للمسافرين، وفي الخان قابل الإمام (أحمد) أحد أصدقائه القدامى واسمه (أبو جعفر الأنباري)، الذي عبَر الفرات للقاء الإمام (أحمد) قبل سفره إلى طرسوس، فلما رآه الإمام (أحمد) قال له: «يا أبا جعفر، تعنيت -أي: كلفت نفسك مشقة السفر وعبور الفرات-».

     فقال له (أبو جعفر): «يا هذا، أنتَ اليوم رأس، والناس يقتدون بك؛ فوالله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليجيبن خلقٌ، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلقٌ مِن الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لا بد من الموت؛ فاتقِ الله ولا تجب».

فجعل الإمام (أحمد) يبكي ويقول: «ما شاء الله»، ثم قال: «يا أبا جعفر، أعد عليَّ»، فأعاد عليه، و»(أحمد) يبكي ويقول: «ما شاء الله!».

     وفي طريق السفر كان الإمام (أحمد) يتهجد ويصلي في جوف الليل، ويدعو الله -عز وجل- ألا يرى (المأمون) وألا يجتمع معه أبدًا، ويلح في الدعاء، وفي رجب سنة 218هـ وقبل أن يصل الإمام (أحمد) ورفيقه (محمد بن نوح) إلى طرسوس هلك (المأمون) فجأة بلا مرض ولا تعب، فراح ضحية سهم من سهام الليل من قوس مظلوم بوتر مكلوم هو دعاء الإمام (أحمد) عليه!

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك