رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 14 نوفمبر، 2022 0 تعليق

بيت المقدس نموذج (2) تسامح الإسلام مع النصارى

                                                            

ما زال حديثنا مستمرا عن تسامح الإسلام مع النصارى في بيت المقدس؛ حيث ذكرنا في المقال السابق أنَّ التاريخ سطر مواقف خالدة في هذا الجانب ولا سيما في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وذكرنا ما ورد في العهدة العمرية التي حفظت للنصارى حقوقهم، وحددت واجباتهم، وذكرنا نماذج مختلفة لهذا التسامح، واليوم نتكلم عن المقارنة بين ما فعله الصليبيون عندما دخلوا بيت المقدس، وما فعله المسلمون لنتعرف على سماحة الإسلام الحقيقية، وسماحة غيرهم.

     عندما احتل الصليبيون بيت المقدس في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان 492 هـ، قتلوا نحو سبعين ألفاً من المسلمين، وكثير من القتلى كانوا أئمةً وعلماء وعباداً ممن فارق الأوطان، وجاوروا بذلك المسجد الأقصى، وظل الصليبيون محتلين لبيت المقدس واحدا وتسعين عاماً، هتكوا خلالها الحرمات، وأزالوا الأمن والأمان، وسنكتفي بوصف المجزرة في بيت المقدس بنقولات عن مؤرخيهم الذين شاهدوا وعايشوا ذلك الحقد الصليبي على الإسلام والمسلمين ومقدساتهم.

مذبحة رهيبة

     يذكر (وليم الصوري) المؤرخ الصليبي، أنه حدثت مذبحة رهيبة، وأصبحت مدينة بيت المقدس مخاضة واسعة من دماء المسلمين أثارت خوف الغزاة واشمئزازهم.

معاملة الصليبيين للمسلمين

     أوضح (غوستاف لوبون) في كتابه حضارة العرب كيف عامل الصليبيون المسلمين في القدس، ووثق ذلك بشهادة (ريمون أجيل) الذي وصف بشاعتها بالآتي: لقد حدث ما هو عجيب عندما استولى قومنا الصليبيون على أسوار القدس وبروجها؛ فقد قطعت رؤوس بعض العرب، وبقرت بطون بعضهم، وقذف بعضهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم؛ فأفنوهم عن بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولداً ولا شيخاً.

     ويذهب مؤرخ صليبي آخر إلى أنه لم يستطع غداة المذبحة الرهيبة «أن يشق طريقه وسط أشلاء المسلمين إلا في صعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت رُكبتيه».

     ويصفه المؤرخ مل: «كان المسلمون القتلى في الشوارع والبيوت، ولم يكن للقدس من ملجأ يلجأ إليه، فقد فر بعض القوم من الذبح؛ فألقى بنفسه من أعلى الأسوار، وانزوى بعضهم في القصور والأبراج وحتى في المساجد، غير أن هذا كله لم يخفهم عن أعين النصارى الذين كانوا يتبعونهم أينما ساروا، ومشى أولئك المنتصرون فوق أكوام من الجثث الهامدة وراء أولئك الذين يبحثون عن ملجأ أو مأوى».

     ويقول (ميشود): «أما أولئك الذين أبقاهم الفرنج أحياء أملاً بأموالهم فقد ذُبحوا بلا مبالاة ولا شفقة، حتى اضطر المسلمون إلى أن يلقوا بأنفسهم من فوق المنازل، وقد أحرق بعضهم وهم أحياء، وسُحب آخرون إلى الساحات العمومية، وقُتلوا على جثث القتلى هناك، وما كانت مياه عيون النساء ولا صياح الأطفال لتسكن من ثورة أولئك المنتصرين».

معاملة المسلمين للنصارى

     حينما حرر القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- بيت المقدس ضرب مثلاً عظيمًا في سماحة الإسلام وقوته وعزته؛ فحين تَسَلَّم المسلمون بيت المقدس في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، استقر رأي صلاح الدين في مجلس الشورى الذي عقده أن يُؤخذ من الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير والطفل من الذكور والبنات ديناران، والمرأة خمسة دنانير؛ فمن أدى ذلك إلى أربعين يوماً فقد نجا، ومن انقضت الأربعون يوماً عنه ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكاً. وسنكتفي كذلك بوصف سماحة الإسلام وعدالته بما شهد به الصليبيون أنفسهم:

يقول (استيفن سن): «إن السلطان قد سمح لعدد كبير بالرحيل دون فدية».

     ويروي (استانلي لين بول): «إن السلطان قد قضى يومًا من أول بزوغ الشمس إلى غروبها وهو فاتح الباب للعجزة والفقراء يخرجون من غير أن تدفع الجزية».

     ويقول المؤرخ الإنجليزي (مل): «ذهب عدد من المسيحين الذين غادروا القدس إلى أنطاكية المسيحية؛ فلم يكن نصيبهم من أميرها إلا أن أبى عليهم أن يضيفهم، فطردهم فساروا على وجوههم في بلاد المسلمين، فقوبلوا بكل ترحاب».

     ولقد خرج البطرك (ستانلي) بأمواله وذخائره الكثيرة دون أن يصرف منها شيئاً في فداء الفقراء والمساكين، فقيل لصلاح الدين «لم لا تصادر هذا فيما يحمل، وتستعمله فيما تقوي به أمر المسلمين؟ «فقال: «لا آخذ منه غير العشرة دنانير ولا أغدر به «، وفي ذلك يقول (ستانلي لين بول): قد وصل الأمر إلى أن سلطاناً مسلماً يلقي على راهب مسيحي درساً في معنى البر والإحسان».

عدل الإسلام مع غير المسلمين

     ولقد سجلت صفحات التاريخ بأحرف من نور صور العدل الذي قام به المسلمون مع غير المسلمين، فالإسلام يحفظ للإنسان الحقوق الأساسية في الحياة التي لا غنى له عنها، ولم يحظ الإنسان -أيا كان جنسه أو مكانه أو مكانته أو زمان عيشه -بمنزلة أرفع من تلك التي ينالها في ظلال الدين الحنيف «الإسلام»، وما ذلك إلا لأن الإسلام دين عالمي ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أرسل للعالمين كافة.

سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم 

     ودراسة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تنبئ عن صفحات مشرقه في حسن تعامله -عليه أفضل الصلاة والسلام -مع غير المسلمين، فقد كان له جيرانٌ منهم، وكان يداوم على برهم، ويعود مرضاهم، ويهدى لهم، ويقبل هداياهم، حتى إن امرأة يهودية وضعت له السم في ذراع شاة أهدته إياها. روى البخاري في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تخلفكم، فمرت به يوماً جنازة، فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفساً؟».

شواهد التاريخ

     وقد راعى الخلفاء الراشدون كرامة غير المسلمين، وشواهد التاريخ ملأى بتلك الحوادث التي يشهد لها المنصفون، وثقت بمعاهدات، نذكر صورة منها وهي العهدة العمرية التي أعطاها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لسكان القدس من النصارى عند فتحها، وقد جاء فيها:

     «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبد الله (عمر أمير المؤمنين) أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم: أمانًا لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها، وبريئها، وسائر ملتها، ألا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود...».

بقاء غير المسلمين على دينهم

     وبقاء غير المسلمين على دينهم قرونًا متتالية في الشام ومصر والأندلس دليل على سماحة الإسلام، فهاهم أولاء يهود السامرة ويطلق عليهم السامريون، كانوا وما زالوا يسكنون مدينة نابلس، وقد حفظ المسلمون منذ الفتح العمري إلى اليوم حقوقهم وخصوصيتهم، ماداموا في عهد المسلمين، وها هي ذي كنائس النصارى في فلسطين وغيرها من الأوطان يدل وجودها إلى الآن وهي برعاية المسلمين، وما زالت مفاتيح كنيسة القيامة في القدس بيد أسرة مسلمة من أسر القدس، تتوارثها جيلاً بعد جيل، وهذا مطلب نصارى القدس؛ حتى لا تحدث الشحناء بينهم على من يمتلك المفاتيح؟

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك