رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الحضرمي أحمد الطلبه 21 مارس، 2019 0 تعليق

بيانٌ ودفع شبهة – قاعدة: لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلَّه (2)

  استكمالا لما تحدثنا عنه في العدد الماضي من الحديث عن قاعدة أن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلَّه؛ حيث ذكرنا تنصيص الأئمة على هذه القاعدة، وذكرنا منهم الإمام أبو حنيفة، والإمام محمد بن الحسن الشيباني، والإمام أحمد، وغيرهم، ثم تحدثنا عن مناط إعمال تلك القاعدة، وبيَّنا حقيقة الذنب، واليوم نتحدث عن شبهة اشتراط الاستحلال القلبي في التكفير بالمعاصي جميعها.

المخالفة القلبية

     حيث يرى بعضُهم أنه لا يجوز أن نكفِّر العصاةَ المتلبِّسين بشيء من المعاصي لمجرَّد ارتكابهم لها واستحلالهم إياها عمليًّا، إلا إذا ظهر لنا يقينًا منهم ما يكشِف لنا عمَّا في قرارة نفوسهم أنهم لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله اعتقادًا؛ فإذا عرفنا أنهم وَقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفرَ ردة.

كلام الطحاوي

     وفي تعليق على كلام الطحاوي -وهو نص القاعدة التي معنا-: يعني استحلالًا قلبيًّا اعتقاديًّا، وإلا فكلّ مذنب مستحلٌّ لذنبه عمليًّا، أي: مرتكبٌ له؛ ولذلك فلابدَّ من التفريق بين المستحلِّ اعتقادًا فهو كافر إجماعًا، وبين المستحلِّ عملًا لا اعتقادًا؛ فهو مذنبٌ يستحقّ العذاب اللائق به، إلا أن يغفر الله له، ثم ينجيه إيمانه، خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين يحكمون عليه بالخلود في النار، وإن اختلفوا في تسميته كافرًا أو منافقًا.

الجواب الإجمالي عن الشبهة

     قد ظهرت هذه الشبهة قديمًا، وقام بعض محقِّقي العلماء بتفصيل الردِّ عليها وإظهار عوارها؛ ولعل من أبرز الأمثلة على بطلانها: أنه يوجد في أهل القبلة المنافقون الذين يتظاهرون بقول الشهادتين، وهم أكفر من اليهود والنصارى، كما دلَّ على هذا الكتاب والسنة والإجماع.

إنكار الواجبات الظاهرة

     ومن الأمثلة على فسادها أيضًا: من يقوم بإظهار إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة؛ كالصلاة والزكاة والحج ونحوها؛ يقول ابن أبي العز الحنفي: لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك، فإنه يستتاب؛ فإن تاب، وإلا قتل كافرًا مرتدًا.

الجواب المفصَّل للشبهة

     ولتفصيل الجواب عن تلك الشبهة لا بد من بيان مقدّمة مهمة، وهي أن الذنوب والمعاصي ليست كلّها على درجة واحدة، وأنها على كثرتها يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: فهي إما أن تكون فعلًا منهيًّا عنه لم يتضمَّن ترك أصل الإيمان، وإما أن تكون فعلًا منهيًّا يتضمن ترك أصل الإيمان، وإما أن تكون عدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وبيان ذلك فيما يأتي:

القسم الأول

     الفعل الذي نهى عنه الشارع الحكيم، ولم يتضمَّن ترك الإيمان، وذلك مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر والربا وأكل أموال الناس بالباطل ونحوها، هذه الأفعال يرى أهل السنة والجماعة أن مجردَ فعلها لا يخرج المسلم من حظيرة الإسلام -كما تقدم- إلا إذا اعتقد مرتكبها أنها حلال، وهذا القسم هو مناط إعمال القاعدةِ باتِّفاق أهل السنة والجماعة، وقد أحسن أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ) بتمثيله لهذه القاعدة بارتكاب الكبائر؛ حيث قال في بيانه لاعتقاد أهل السنة: ولا يكفِّرون أحدًا من أهل القبلة بذنب: كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر.

القسم الثاني

     الفعلُ المنهي عنه المتضمِّن لترك أصل من أصول الإيمان، ومن أمثلته: سب الله أو سب رسوله، أو إهانة المصحف، أو السجود لصنم، ونحو ذلك؛ فهذا يكفر فاعله بمجرَّد فعله لها، ولا ينظر في جحده أو استحلاله لها؛ وذلك لأن هذه الذنوب قد تضمنت ترك أصل الإيمان؛ ودليل ذلك قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 46)؛ فإذا تضمَّن فعل الذنب تركًا لأصل الإيمان كالشرك بالله -تعالى-؛ فإن الله -تعالى- لا يغفره، وهذا القسم لا يدخل قطعًا في القاعدة عند أهل السنة والجماعة.

شيء من التفصيل

     ولعل هذا القسم يحتاج إلى شيء من التفصيل، ولندع شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) يفصِّل لنا القول فيه؛ حيث يقول: إن سبَّ الله أو سبَّ رسوله كفر، ظاهرًا وباطنًا، وسواء كان السابّ يعتقد أن ذلك محرّم، أم كان مستحلًّا له، أم كان ذاهلًا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل، وقد حكى الإمام أبو إسحاق ابن راهويه (ت 238هـ) الإجماع على ذلك فقال: قد أجمع المسلمون أن من سبَّ الله أو سب رسوله -عليه الصلاة والسلام- أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أو قتل نبيًّا من أنبياء الله أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًّا بما أنزل الله، وكذلك نقل عن الشافعي أنه سئل عمَّن هزل بشيءٍ من آيات الله -تعالى- أنه قال: «هو كافر»، واستدل بقول الله -تعالى-: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة: 65، 66)، وكذلك قال أصحابنا.يعني: الحنابلة وغيرهم: من سبَّ الله كفر، سواء كان مازحًا أم جادًّا؛ لهذه الآية وهذا هو الصواب المقطوع به.

سبَّ الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم

     وقال القاضي أبو يعلى في (المعتمد): من سبَّ الله أو سب رسوله؛ فإنه يكفر، سواء استحلَّ سبه أم لم يستحله؛ فإن قال: لم أستحل ذلك، لم يقبل منه في ظاهر الحكم، رواية واحدة، وكان مرتدًّا؛ لأن الظاهر خلاف ما أخبر؛ لأنه لا غرض له في سب الله وسب رسوله؛ إلا لأنه غير معتقد لعبادته، غير مصدِّق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، ويفارق الشارب والقاتل والسارق إذا قال: أنا غير مستحل لذلك أنه يصدَّق في الحكم.

ترك أصل الإيمان

وأكثر من هذا؛ حيث يرى الإمامان الجليلان الحميدي وأحمد بن حنبل -رحمهما الله تعالى- أن هذا القول -أعني: القول بأن من فعل منهيًّا عنه تضمَّن ترك أصل الإيمان؛ فإنه لا يحكم بكفره إلا إذا استحل أو جحد، كفر صراح. ودونك نص كلامهما:

     يقول الحميدي: وأُخبِرت أن قومًا يقولون: إنَّ من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم يفعل من ذلك شيئًا حتى يموت، أو يصلي مسندا ظهره مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن، ما لم يكن جاحدًا، إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه، إذا كان يقرّ الفروض، واستقبال القبلة.

     فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل المسلمين، قال الله -عز وجل-: {حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5)، قال حنبل: قال أبو عبد الله أو سمعته يقول: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول ما جاء به.

القسم الثالث

 عدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، كمن اعتقد عدم وجوب الصلاة أو الزكاة ونحوها؛ فهذا يكفر، وكذا من اعتقد عدم تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، كمن اعتقد حلَّ الخمر أو الزنا ونحو ذلك.

     ويلخص شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بقوله: قد تقرَّر من مذهب أهل السنة والجماعة -ما دل عليه الكتاب والسنة- أنهم لا يكفِّرون أحدًا من أهل القبلة بذنب، ولا يخرجونه من الإسلام بعمل إذا كان فعلًا منهيًّا عنه مثل: الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان، وأما إن تضمَّن ترك ما أمر الله بالإيمان به مثل: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت؛ فإنه يكفر به. وكذلك يكفر بعدَم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وعدم تحريم الحرمات الظاهرة المتواترة.

خلاصة القول

     فتبين لنا بما تقدَّم:  أن عدمَ تكفير أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحله منوطٌ بمن ارتكب فعلًا منهيًّا عنه ولم يتضمَّن ترك الإيمان؛ كشرب الخمر أو الربا أو نحو ذلك، ولا يندرج تحت القاعدة الفعل المنهيُّ عنه المتضمِّنُ لترك أصل الإيمان؛ كسب الله ورسوله أو إهانة المصحف ونحو ذلك؛ فإن فاعله يكفر بمجرد الفعل ما لم يقم مانع معتبر من موانع التكفير، ولا يتعلَّق ذلك باستحلال أو جحود، وكذا لا يندرج تحتها عدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، كمن اعتقد عدم وجوب الصلاة أو الزكاة أو الحج ونحو ذلك؛ فإنه يكفر أيضًا بمجرد ذلك.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك