رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 29 نوفمبر، 2010 0 تعليق

الفاتيكان والمسجد الأقصى(1-3)

طرأت تغيرات متسارعة على موقف الفاتيكان(1) من القضية الفلسطينية عموماً ومن قضية القدس والمسجد الأقصى على وجه الخصوص؛ تلك المواقف والقرارات كانت الدافع لبعض الباحثين في دراسة(2) تلك الأسباب ومحاولة فهم دوافعها.

في البداية وقف الفاتيكان في وجه المشروع الصهيوني وعارض المشروع الداعي لإقامة دولة يهود في فلسطين باعتباره الراعي للوجود والأماكن المقدسة النصرانية في القدس منذ أمد بعيد، وأصدر الفاتيكان بياناً في الشهر الخامس من العام 1897م, وقبل انعقاد المؤتمر الصهيوني في بازل (29 – 31 آب/ أغسطس 1897م) جاء فيه: «لقد مرت ألف وثمانمائة وسبع وعشرون سنة على تحقيق نبوءة المسيح بأن القدس سوف تدمر ... أما فيما يتعلق بإعادة بناء القدس بحيث تصبح مركزاً لدولة إسرائيل يعاد تكوينها, فيتحتم علينا أن نضيف أن ذلك يتناقض مع نبوءات المسيح نفسه, الذي أخبرنا مسبقاً بأن القدس سوف تدوسها العامة (جنتيل) حتى نهاية زمن العامة (لوقا 21/24) أي حتى نهاية الزمن»(3).

واتخذ بابا(4) الفاتيكان (بيوس العاشر) موقفاً مباشراً عندما استقبل (هيرتزل) في العام نفسه, حيث أبلغه «رفضه إقامة وطن يهودي في فلسطين؛ لأنه يتناقض مع المعتقد الديني المسيحي»(5).

غير أن هذه المواقف من الفاتيكان لم تدم طويلاً, وأخذت في التراجع, بداية مع الاعتراف بالحقوق المدنية لليهود في فلسطين(6). ثم بقبول القرار رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين, فلسطينية ويهودية ، والداعي كذلك إلى تدويل القدس(7).

فحينما اعتلى (بولس السادس) سدة البابوية، زار في عام 1964م القدس والأماكن المقدسة لدى النصارى والتقى برئيس الكيان الصهيوني في الوقت الذي كان الصراع العربي الصهيوني في أوج ذروته.

ومع مجيء البابا (يوحنا بولس الثاني)» في العام 1979م تعاظم دور الفاتيكان السياسي بشكل لم يكن مسبوقاً على الإطلاق، وأطلق شعار (أن نكون في العصر) على أعمال المجمع الفاتيكاني(8).

وفي عام 1965م شارك في أعمال ذلك المجمع ما يزيد عن 2350 مندوباً مما أعطى المجمع بعداً عالمياً، وأخذت فيه قرارات فاجأت الكثيرين ولاسيما تلك المتعلقة بالعلاقة مع اليهود، ولا تزال نتائجها وآثارها ماثلة حتى يومنا هذا(9)، حيث نشطت الحركة الصهيونية وسعت لاستصدار وثيقة بتبرئة اليهود من دم المسيح ورفع اللعنات عنهم في الصلوات التي كانت تعرف بـ (صلاة لتنصير اليهود)، والاعتراف بأنهم شعب الله المختار وبأن الله أقام معهم عهداً وميثاقاً على ما جاء في العهد القديم، ووضع حد لكراهية اليهود واضطهادهم، وهو ما يعرف باللاسامية(10).

وتلك الوثيقة مارست الصهيونية العالمية ضغطاً مركزاً من أجل إصدارها، وأدت إلى تقارب كاثوليكي يهودي وفتح باب الحوار بينهما حيث كان موصداً لسنوات طويلة. واستغلت الجمعيات اليهودية تلك الوثيقة وطالبت بوضع ما جاء فيها موضع التنفيذ.

ورفع الكاردينال بابا من تأييده لليهود بأن دعا أعضاء مجمع الفاتيكان إلى ضرورة الامتداد بالمسيح في محبته للشعب اليهودي(11)، بل قام بجولات إعلامية في أمريكا ودول أوروبا بغرض إقرار الوثيقة(12).

وقام الفاتيكان منذ ذلك الوقت بورشة تعديل كل النصوص المعادية لليهود وعقيدتهم، وتشكيل لجان للتنسيق والمتابعة بهدف وضع العلاقات اليهودية المسيحية على سكتها الطبيعية ولإقامة حوار صريح بين الكنيسة الكاثوليكية واليهود!! وتبادل الزيارات على أعلى المستويات، وتلا ذلك التحول الأكبر بعد الفاتيكان الثاني (1962- 1965م) المتمثل في الاعتراف بالشعب اليهودي وبحق العودة إلى أرض فلسطين «وبإقامة وطن قومي لليهود»، مما أثار المجموعة العربية التي حضرت المجمع والتي وقفت موقفاً سلبياً من كل تعديل يمس أسس العقيدة المسيحية(13).

وحينما زار «يوحنا بولس الثاني» كنيسا يهوديا في وسط العاصمة روما، وصفت الصحافة الزيارة بالتاريخية ومنعطفاً خطيراً في سياسة الكرسي الرسولي بعد إعلان 1965م، وفي كلمة ألقاها في الكنيس اليهودي 1986م قال البابا: «إن الكنيسة الكاثوليكية تندد بالحق والاضطهاد وكل المظاهر العادية السامية الموجهة ضد اليهود في كل وقت وبواسطة أي كان... إن اليهود هم الإخوة الأعزاء المحبوبون للمسيحيين وفي الإمكان القول إنهم الأخوة الكبار، إن الكاثوليك واليهود يجب أن يتعاونوا فيما بينهم لتعزيز السلام والعدل والكرامة الإنسانية ؛لأنهم الأوصياء والشهود على نزول الوصايا العشر»(14).

وفي عام 1986 م قطع «يوحنا بولس الثاني إجازته الصيفية ليقابل تسعة من رؤساء المنظمات اليهودية في مقره الصيفي خارج روما».وفي عام 1993م تم توقيع الاتفاق الفاتيكاني الإسرائيلي وتلاه حفل إحياء محرقة اليهود وقد جرى في عقر دار الفاتيكان.

وانفرطت السبحة وزادت الوثائق الفاتيكانية ففي عام 1998 صدرت وثيقة فيها أسف بشأن «الأخطاء والهفوات التي قام بها أبناء الكنيسة وبناتها(15)» وتلك الوثائق كانت بلا شك أكبر من مجرد اعتذار وإنما هي ندم وطلب للغفران من اليهود(16) على ممارسات لم يقترفها من يطلب التوبة والمغفرة!!

والزيارة التي قام بها «يوحنا بولس الثاني» لاقت ترحيباً من قبل سلطات الاحتلال، وعلق أحد كبار الحاخامات على الزيارة بقوله: «إن كنيسة روما قد تحولت إلى واحد من أفضل أصدقاء الشعب اليهودي بعدما كانت عدواً لدوداً له»(17). وفي تلك الزيارة (آذار 2000م) وضع (يوحنا بولس الثاني) رسالة على حائط البراق- (المبكى) عند اليهود- وهي عادةً وطقس يهودي كتب فيها: «يا إله آبائنا وأجدادنا يا من اخترت إبراهيم وذريته لحمل اسمك إن الحزن يغمرنا حيال تصرفات الذين تسببوا خلال التاريخ بتألم أولادك هؤلاء ونحن إذ نطالب مغفرتك نود أن نلتزم إقامة إخاء فعلي مع أهل العهد(18). وبذلك حقق «يوحنا بولس الثاني» لليهود ما لم يكونوا يأملون به ويتوقعونه.

وتلك المواقف دفعت أصواتا من داخل المجمع والكنيسة لمعارضة هذا الحوار مع اليهود، والاعتذار والمبالغة غير المسوغة لكل تلك الوثائق والمواقف، وقد برر تلك المواقف الفاتيكان بأنها لهدف استنقاذ القدس وجعلها رمزاً للسلام والمصالحة.

ومجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يمثل كل الكنائس في المنطقة العربية أنكر تلك التقلبات، وأصدر المجلس في عام 1985م، يباناً جاء فيه: «إننا ندين استغلال التوراة واستثمار المشاعر الدينية في محاولة لإضفاء صبغة قدسية على إنشاء (إسرائيل) ولدمغ سياستها بدمغة شرعية، إن هؤلاء لا يعترفون لكنائس الشرق الأوسط بتاريخها وبشهادتها وبرسالتها الخاصة ويحاولون زرع رؤية لاهوتية غريبة عن ثقافتنا».

وحذر مجلس رؤساء الكنائس في الأردن في بيان له(19) من وجود نحو أربعين فرقة تبشيرية تعمل في البلاد تحت غطاء (الجمعيات الخيرية وستار الخدمة الاجتماعية والتعليمية والثقافية)، تحاول أن تفرض ذاتها بكل الوسائل لأنها مدعومة سياسيا وماليا من بعض الدول!! والخطير في الأمر وجود أجندات خفية لهذه المجموعات الأقرب إلى «المسيحية المتصهينة»(20). وحذر مجلس رؤساء الكنائس من خطر هذه الفرق على المسيحية في الأردن وعلى العلاقات المسيحية الإسلامية.

وفي النهاية رضخ الفاتيكان وتحول من موقع المقاومة إلى المساكنة والمهادنة ثم التعايش إلى بلوغ مرحلة الاعتراف بدولة إسرائيل وتسويغ الممارسات والإجراءات.

وكان الفاتيكان إبان قيام دولة اليهود في أرض فلسطين قد نشر نداءات باباوية بشأن جمع التبرعات وتمويل ريعها للأماكن المقدسة التي كان لها أثر كبير في زيادة الأعمال الاجتماعية والخيرية والثقافية»(21).

ولا شك أن الكيان الصهيوني استغل الظرف الذي تعيشه الطوائف النصرانية لتضغط على الفاتيكان للاعتراف بإسرائيل وقايضت الكنيسة مقابل السماح لها بممارسة الأنشطة الدينية دون مضايقات أو قيود، ولعب اليهود  لإحداث فتنة بين الفرق المسيحية الموجودة في فلسطين وهذا ما دفع «لتسارع تلك الوثائق».

الموقف حيال القدس:

طالب الفاتيكان بعد قيام حرب 1967 م بجعل القدس «مدينة مفتوحة ومحرمة» وخاضعة لنظام دولي ، وجرت اتصالات بين الفاتيكان والكيان الصهيوني كان من نتائجها أن قررا الجانبان مواصلة اتصالاتهما لإيجاد وتسوية مقبولة تتعلق بالأماكن المقدسة.

وبعد أن أصر الفاتيكان على تدويل القدس ردت دولة الاحتلال على ذلك الإصرار بإعلانها «القدس عاصمة أبدية لإسرائيل» عاصمة إسرائيل الموحدة !!

ويُعزى التراجع في موقف الفاتيكان لعدة أسباب أهمها: نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية وضغطها السياسي والاقتصادي على الدولة الكاثوليكية، وكذلك الخوف على الوجود المسيحي الكاثوليكي في فلسطين. وهذا دفع الفاتيكان للتخلي عن مبدأ التدويل واكتفى بالمطالبة بإجراءات وقواعد قانونية تحفظ للوجود المسيحي الكاثوليكي بعض الضمانات الخاصة.

وحينما جاء مؤتمر مدريد (1991م), ليفرض على جميع الأطراف التي لها صلة بالقضية الفلسطينية, أن تبدل من مواقفها, وتتعاطى مع الوقائع الجديدة والمتغيرات الدولية بأسلوب وطريقة مختلفة عن السابق، فبدأت الاتصالات بين الفاتيكان وبين الحكومة الإسرائيلية, وتم تشكيل لجنة مشتركة, مهمتها وضع آلية لإقامة علاقات دبلوماسية، وفي أول جلسة للجنة المشتركة اعترف ممثلو الفاتيكان «بحق إسرائيل في العيش داخل حدود آمنة»(22) وطالبوا الوفد الإسرائيلي بضرورة تحقيق «.. تسوية للمشكلات المتعلقة بوضع الكنيسة قبل إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل»(23)، وفي 30 كانون الأول / ديسمبر 1993م تم التوقيع على الاتفاقية, التي اعترف الفاتيكان بموجبها بإسرائيل وتبادل معها وثائق الاعتراف الرسمي، وفي العام 1994م أقام معها علاقات دبلوماسية (24). 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك