رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 31 يناير، 2019 0 تعليق

الضابط السادس – الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – السنة في الصدقة الاعتدال

باب الوقف من الأبواب المهمة التي من الأهميّة تقرير ضوابطه؛ ذلك أنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامّة، الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثمّ من القواعد الفقهيّة الكلّيّة، ثم يترجم كلّ ذلك على هيئة ضوابط خاصّة بباب الوقف، وهو ما سنتناوله في هذه السلسلة المباركة -إن شاء الله-، واليوم مع الضابط السادس وهو (السُّنَّةُ في الصَّدقة الاعتدال).

     هذا ضابطٌ يتعلّق بما يتحتّم على الواقف مراعاته من جهة قدرته الماليّة؛ إذ إنّ الرغبة في الخير أمرٌ محمودٌ، والتنفُّل باستثمار ما أمكن من المال في استبقاءِ عملٍ يكون دارًّا للحسنات على صاحبه بعد الموت لا يجوز أن يتخطّى إلى حدود الإضرار بالواجبات، ولا أن يطغى على ما هو أولى من وجوه الخير، وإلّا صار العملُ أقرب إلى التشهّي، وأبعد عن الفقه والبصيرة، وهذا الاعتدالُ والتوسُّط من ملامح هذه الشريعة السَّمْحة وسماتها العامّة الظاهرة في كلّ مناحيها؛ فهذا ضابطٌ لعموم التبرُّعات؛ ممّا لا نحتاج -لظهوره ووضوحه على امتداد نَسَق التّشريع- أن نعزُوَه إلى عالمٍ أو كتاب.

الاقتصاد في الوصية

     ومن ذلك، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم  قد أوصى سعداً رضي الله عنه بأنْ يقتصد في وصيّته، معلِّلاً ذلك بأنّه يجب أن يلتفت إلى حقّ ورثته، وأنّ النّظر إلى وجوه الخير التي يُشرع الإنفاق فيها يحتّم على العامل أن يدرك مراتبها، وأولويّاتها؛ فيقدّم ما قدّمه الشّرع، ويؤخّر ما أخّره؛ فعن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودُني وأنا بمكّة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: «يرحم الله ابنَ عَفْراء»، قلت: يا رسول الله! أوصِي بمالي كلِّه؟ قال: «لا». قلت: فالشَّطْر؟ قال: «لا». قلت: الثُّلُث؟ قال: «فالثُّلُث، والثُّلُث كثيرٌ، إنّك أَنْ تَدَعَ ورَثَتَك أغنياء، خيرٌ من أنْ تَدَعَهُم عَالَةً يتكفَّفُون النّاس في أيديهم، وإنّك مهما أنفقتَ من نفقةٍ فإنّها صدقةٌ، حتّى اللُّقْمَةَ التي ترفَعُها إلى فِي امرأتِك، وعسى الله أنْ يرفعَك فينتفع بك ناسٌ، ويُضَرَّ بك آخرون»، ولم يكن له يومئذ إلا ابنةٌ.

التوسُّط والاعتدال

ومن هنا لحَظَ عمر رضي الله عنه أنّ المطلوب هو التوسُّط والاعتدال في الإنفاق في ضوء الهدايات القرآنيّة والنبويّة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: ذُكر عند عمر الثُّلُث في الوصيّة، قال: الثُّلُثُ وَسَطٌ، لا بخسٌ، ولا شَطَطٌ،

     قال الحافظ: «وقعَ في رواية الزهريِّ أنّ سعداً قال: وأنا ذو مالٍ، وهذا اللّفظ يؤذِن بمالٍ كثيرٍ، وذو المال إذا تصدّق بثُلُثِه أو بشَطْره وأبقى ثُلُثَه بين ابنتِه وغيرها لا يصيرون عالَةً! لكن الجواب أنّ ذلك خرج على التّقدير؛ لأنّ بقاءَ المالِ الكثيرِ، إنّما هو على سبيل التّقدير، وإلا فلو تصدّق المريضُ بثُلُثَيْه مثلاً ثمّ طالت حياتُه ونقصَ وفَنِيَ المال؛ فقد تُجْحِفُ الوصيّة بالوَرَثِة، فرَدَّ الشّارع الأمرَ إلى شيء معتدلٍ وهو الثُّلُث...».

قضيّة المال

ولمّا كانت قضيّة المال من القضايا الكبرى التي اعتنى بها الإسلام، عنايةً فائقةً دقيقةً على كلّ مستوياتها، كسباً، وحفظاً، وإنفاقاً؛ فقد ظهرت سمة الاعتدال في هذا الميدان واضحةً جدًّا، لاتّساع تطبيقاته وعظم تأثيره، وآثاره.

     فقد عاب الله -تعالى- على الذين يشحّون بأموالهم ويضنّون بها؛ فقال: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}(الفجر: 19-20)، وقال في وصف موقف الهلكَى الذين اعتصموا بأموالهم عوضاً عن حبل الله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ}(الحاقة: 25-28)، وقال: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}(الليل: 11)، إلى غير ذلك.

الحفاظ على المال

     وفي ذات الوقت منع الإسلام من إيتاء المال إلى السفهاء حفاظاً عليه؛ فقال -تعالى-: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاما}(النساء: 5)، وبيّن مشروعيّة جمعه وادّخاره في نصوص كثيرة، كقوله -سبحانه-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 46)، وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}(آل عمران: 14)، وبعد الإقرار بهذه الطبيعة البشريّة، والغريزة الإنسانيّة، تفرّعت قواعد الكسب المشروع من مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}(البقرة: 275)، وغير ذلك.

الإنفاق في سبيل الله

     وإلى جانب تقرير أنّ التوسُّط والاعتدال هو المنهج الأساس الثابت للإنفاق عموماً، كما قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}(الفرقان: 67)؛ فقد جاء بوضوحٍ تقرير أنّ الجادّة المطروقة، والنّهج المسلوك العامّ في الإنفاق في سبيل الله، لا يخرج عن هذه القاعدة أيضاً؛ فمن النصوص الواردة في ذلك: عن عبد الله بن حبشيّ الخثعميّ، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: «طول القيام»، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «جَهْدُ المُقِلِّ»، قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: «من هجر ما حرّم الله عليه»، قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: «من جاهد المشركين بماله ونفسه»، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: «من أُهْرِيقَ دمُه، وعُقِرَ جوادُه»، وقد جاء عن أبي هريرة بلفظ آخر، قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: «جهد المُقِلِّ، وابدأ بمن تعول».

أفضلُ الصّدقة

     قال صاحب (عون المعبود4/227): «أي: أفضلُ الصّدقة قَدْرُ ما يحتمله حالُ القليل المال، والجمع بينه وبين قولِه: «أفضلُ الصّدقةِ ما كان عن ظهر غنىً»، أنّ الفضيلةَ تتفاوتُ بحسب الأشخاص، وقوّة التوكُّل، وضعف اليقين». اهـ، وقال ابن الجوزي: «واعلم أن الصدقة نافلة، وإغناء النفس والأهل واجب؛ فإذا أُغْنُوا حَسُنَت الصّدقة بعد ذلك؛ فهذا معنى قوله: «وابدأ بمن تعول». فإنْ قيل: فكيف الجمع بين هذا وبين قوله: أفضل الصدقة جَهْد مُقِلٍّ فالجواب من وجهين، أحدُهما: أنْ يكون جَهْد المُقِلِّ بعد إِغْنَاءِ من يلزم إغناؤه؛ فكأنّه يَسْتَسِلُّ من فواضل الغنى شيئًا فيتصدّق به، والثاني: أنْ المُقِلَّ إذا آثر وصبر فهو غنيٌّ بالصّبر».

المقطوع به

     وهذا تلخيصٌ حسنٌ للمقام بأخصر عبارة، أعني النّقل عن ابن الجوزي الذي قبله؛ فإنّ من المقطوع به أنّ الاعتدال والتوسُّط ليس منوطاً بقيمةٍ ماليّةٍ رقميّةٍ دون أخرى! ولا زمانٍ دون زمانٍ، ولا مكانٍ دون مكانٍ، وإنّما هما منوطان بأن يصيبَ العبدُ المقام الذي يناسبُه، ويوافق الصورة التي تصلح لمرتبته؛ من حيث الفقر والغنى، والقدرة على الاحتمال والصبر من عدم ذلك، ومدى اتّساع حاجاته؛ فلا ينبسط بالنفقة والصدقة مع ضعف يقينه وكثرة حاجاته؛ فينقلب ذلك ندماً وتراجعاً، وإنما يبصر العاقلُ أين يضع قدميه ماديًّا ومعنويًّا؛ فيختار ما يناسبه في حدود القدرة؛ فإنّ هذه هي الوسطيّة، وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «سدِّدُوا وقارِبوا، واغْدُوا، ورُوْحُوا، وشيءٌ من الدُّلْجَةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تبلغوا».

من الأمور المحمودة

     قال ابن المنيّر: «في هذا الحديث علمٌ من أعلام النبوّة؛ فقد رأينا ورأى النّاس قبلَنا، أنّ كلَّ متنطّع في الدِّين ينقطع، وليس المراد منعُ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنّه من الأمور المحمودة، بل منعُ الإفراط المؤدِّي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته».

وقال الحافظ: «قوله: والقصدَ القصدَ: بالنّصب على الإغراء، أي: الزموا الطريق الوسط المعتدل».

وقال: «والقصدُ: الأخذ بالأمر الأوسط، أراد أن يبيّن أنّ الأَوْلى للعامل بذلك ألا يُجْهِد نفسَه؛ بحيث يعجز وينقطع، بل يعمل بتلطُّف وتدريجٍ ليدوم عمله، ولا ينقطع».

ولا ريبَ أنّ الصدقة من رؤوس الأعمال الصالحة، ومنها الوقف، والاعتدال والاقتصاد والتوسُّط مطلوبٌ فيه كما هو مطلوبٌ في الصدقة، وكما هو الحال في عامّة أحكام هذه الشريعة.

      وتظهر تطبيقات هذا الضابط في صورةٍ مكرّرةٍ يراها النّاظر في كتب السؤالات والفتاوى، في السؤال عن الرّجوع في الوقف؛ إذ تلحظ على نحوٍ مستمرٍّ من يلجأ إلى هيئة إفتاء ليستفتيها في حكم رجوعِه عن وقفٍ كان وقفَه، بعد أن طال عمره وبرزت له حاجاتٌ لم تكن في حسبانه، أو وجد أنّه تعجّل في التلفّظ بوقفها وفي توثيق ذلك قبل أن يستوضح نيّته ويستطلع إرادته وقصدَه على وجه الكمال.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك