رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. سندس عادل العبيد 30 نوفمبر، 2021 0 تعليق

السعادة في السّنّة النّبويّة – السعادة الحقيقية المستمرة

 

 

ما زال حديثنا مستمرا عن السعادة في السنة النبوية، وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن مظاهر السعادة وآثارها في السّنّة النّبويّة، وذكرنا منها: الحياة الطيبة، والبشارة بالخير، والثناء الحسن، الرؤيا الصالحة، والعناية الربانية، واليوم نكمل ما بدأناه.

 

البشرى في الآخرة 

     قال الله -عز وجل-:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (سورة التوبة: 21، 22)، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ».

     تضمن الحديث من تفسير اللقاء ما فيه كفاية وغنيةٌ عن غيره وشرح هذا المعنى، إنما إيثار العبد الآخرة على الدنيا واختيار ما عند الله على ما بحضرته فلا يركن إلى الدنيا، ولا يحب طول المقام فيها، لكن يستعد للارتحال عنها ويتأهب للقدوم على الله -تعالى-، وفي الحديث بيان أنّ الكراهة المعتبرة، هي التي تكون عند النزع في حالة لا تقبل توبته ولا غيرها، فحينئذٍ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه، وما أعد له ويكشف له عن ذلك، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعد لهم ويحب الله لقاءهم، أي: فيجزل لهم العطاء والكرامة.

 وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه؛ لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم، أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته -سبحانه- لقاءهم، وليس معنى الحديث أن سبب كراهة الله -تعالى- لقاءهم كراهتهم ذلك، ولا أن حبه لقاء الآخرين حبهم ذلك، بل هو صفة لهم.

 

بشرى المؤمنين 

     والمؤمنون لهم البشرى التي لا يقدّر قدرها، ولا يعلم وصفها، إلا من أكرمهم بها، وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا وهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق، وفي الآخرة أولها البشارة عند قبض أرواحهم، كما قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} (سورة فصلت: 30)، وفي القبر ما يبشر به من رضا الله -تعالى- والنعيم المقيم، وفي الآخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إلى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (سورة الزمر: 17، 18) في هذه الآية أخبر الله سبحانه أنّ لهم البشرى، ثم أمر سبحانه ببشارتهم، وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال -تعالى-: {فبشر عباد الذين يستمعون القول} وهذا جنس يشمل كل قول، فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي اجتنابه، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام الله وكلام رسوله، كما قال في هذه السورة: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا}، وهذا هو الفوز العظيم لأنّه اشتمل على النجاة من كل محذور، والظفر بكل مطلوب محبوب، وحصر الفوز فيه، لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان والتقوى، والحاصل أنّ البشرى شاملة لكل خير وثواب، رتّبه الله في الدنيا والآخرة، على الإيمان والتقوى، ولهذا أطلق ذلك، فلم يقيده.

 

الرضا والسكينة 

قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} (سورة البينة: 7-8)، من أوضح مظاهر السعادة الرضا والسكينة، فسعادة العبد تكون عند الرضا، كما قال النبي -[-: «فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا»، وإذا امتلأ قلب العبد رضا انشرح للإيمان، وسكنت قلبه الطمأنينة، ورزقه الله الفرح والسرور والانشراح والسكينة، وحظي بنضارة الوجه وطيب النفس، وحسن المعشر، وسلامة الحياة.

وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ»، فمن رزق الرضا رزق غنى النفس، ومن رضي بالقسمة، وعلم أنها جارية على وفق الحكمة لم يأسف على ما فاته من حظوظ الدنيا، ولم يحزنه ما ناله أهلها منها فصار أغنى الناس بقلبه، فإنّ الغنى غنى القلب، وأيّ سعادة بعد غنى القلب؟.

قال النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ -عز وجل- إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»، وروي عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - في تفسير قوله -تعالى- {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة الفتح: 4) قَالَ - رضي الله عنه -: «السَّكِينَةُ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الإنسان، ثُمَّ هِيَ بَعْدُ رِيحٌ هَفَّافَةٌ».

     ومحبة الله -تعالى- ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة؛ بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرّة عين المحبين وحياة العارفين، وإنما تقرّ عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله -عز وجل- فمن قرّت عينه بالله، قرّت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات»، ويعد الشعور بالطمأنينة النفسية أحد مظاهر الصحة النفسية الإيجابية وأول مؤشراتها.

 

الاستقرار النفسي والأسري 

     قال -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82)، ولم يلبسوا أي: يخلطوا إيمانهم بظلم فأولئك لهم الأمن من المخاوف والعذاب والشقاء، والهداية إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقًا، لا بشرْك، ولا بمعاصٍ، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامّة، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها.

     وقال -تعالى-:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28)، فاستقرار النفس وسكونها وسعادتها إنما يكون بالقرب من الله -تعالى- وذكره، فمن حقق الإيمان واتبع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - سكنت نفسه ورضيت وانشرح قلبه، وعرف هدفه من هذه الحياة، وحينما تكون نفسه في صحة إيجابية كما يطلق عليها في علم النفس، ومع الأسف هذا العصر كدنا نرى كثيرًا ممن يشتكي من صحته النفسية، والتذبذب النفسي، والاكتئاب والحيرة وغيرها من الأمراض النفسية، مع أنّ في ديننا علاجا لكل حيرة وضياع، ولكل هم وحزن واكتئاب، لهذا من كان قريبًا من الله -تعالى- متّبعًا لمنهج النبي - صلى الله عليه وسلم - حظي بصحة نفسية إيجابية وشعر بالسعادة والطمأنينة.

خرج رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، وَعَلَيْهِ أَثَرُ غُسْلٍ وَهُوَ طَيِّبُ النَّفْسِ، فظنوا أَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ، فَقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَاكَ أَصْبَحْتَ طَيِّبَ النَّفْسِ. قَالَ: « أَجَلْ، وَالْحَمْدُ لِلهِ»، ثُمَّ ذَكَرَ الْغِنَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ».

 

ما طيب النفس ؟ 

     وطيب النفس هو السرور بما أعطاه الله لعبده من التوفيق لطاعته، والبركة في نفسه وأموره، وأمنه من المخاوف، فترتاح النفس بقربها من ربّها وطاعته، وتطمئن وتسكن، وحينئذٍ تكون في نعيم وأيّ نعيم بعد هذا النعيم العظيم! رزقنا الله وإياكم طيب النفس. وحاجة الإنسان إلى الاستقرار النفسي (الطمأنينة الانفعالية) من أهم الحاجات في تكوين أساس الشخصية، وإمدادها بأنماط من القيم والمعايير والسلوك والاتجاهات السليمة السوية، وهي من أهم شروط الصحة النفسية.

وهذه الطمأنينة الانفعالية يحظى بها من اتبع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحياة؛ حيث يجعل الله غناه في قلبه، ويجمع عليه شمله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ».

 

الاستقرار الأسري 

     ومن مظاهر السعادة الاستقرار الأسري، قال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)، والاستقرار الأسري هو العلاقة الزوجية السليمة التي تحظى بقدر عال من التخطيط الواعي الذي تراعي فيه الفردية والتكامل في أداء الأدوار لتحديد كيفية تحمل المسؤوليات والواجبات، ومدى القدرة على مواجهتها مع اعتبار ديمقراطية التعامل مع الأسرة كي تستطيع الصمود أمام الأزمات وتحقيق المرونة والتكييف مع المتغيرات.

 

أصل السعادة الزوجية والإستقرار  

     وبهذا يتبيّن أنّ أصل السعادة الزوجيّة والاستقرار الأسري هو الإيمان الحق واتّباع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد قيّد النبي- صلى الله عليه وسلم - عدم البغض بالمؤمن والمؤمنة لأنّ نفوسهم راقية طيبة، نفوسهم تعامل الخلق لله وفي الله، بعيدة من حظوظ النفس والشيطان، فهنيئًا لمن اتقى الله، وكان طيّب النفس وحَسن الخلق، هنيئًا له بالسعادة والاستقرار الأسري.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك