السعادة في السّنّة النّبويّة – أنواع السعادة وحقيقتها ومظاهرها في السّنّة النّبويّة
ما زال حديثنا مستمرا عن السعادة في السنة النبوية، واليوم نتحدث عن أنواع السعادة وحقيقتها، ومظاهرها في السّنّة النّبويّة، ونتساءل: هل السعادة نوع واحد؟ هل هي في طريق واحد؟ هل يمكن أن يعيش الإنسان سعادة زائفة؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن لنا طريق السعادة وكلّ ما يتعلّق بها، وكان منهجه - صلى الله عليه وسلم - منهجًا متكاملا للحياة، ولو أننا تمسكنا بسنّته لما حدنا عن الصواب، فقد أعطانا - صلى الله عليه وسلم - الدنيا والآخرة؛ لأنّه جاء بنعمة الإسلام التي بها يتحقق للعبد السعادة في الدّارين.
أنواع السعادة من حيث الكمال
إن السعادة في السنة النبوية من حيث الكمال نوعان: سعادة دنيوية ناقصة يشوبها الحزن والألم والهم والكدر، وهي سعادة ناقصة مؤقتة تزول ولا تدوم، وسعادة أخرويّة وهي سعادة كاملة لا يشوبها حزن ولا نقص ولا كدر ولاهم بل هي فوق التصور والخيال، وهي سعادة خالدة باقية لا تزول ونعيم دائم لا يتبدل، وقد بيّن لنا الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم - هاتين السعادتين، ودلّنا على السكينة والطمأنينة والحبور.
والسعادة لا تختص بالفرد أو الأسرة، فهي عالمية تتناسب مع عالمية الإسلام وعالمية الدعوة النّبويّة، وتشمل الأبعاد كلّها، تشمل سعادة الفرد، وسعادة الأسرة، وسعادة المجتمع الإسلامي بأكمله، وتبدأ هذه السعادة من صلاح الفرد، والعبد إذا انتهج منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في السعادة استطاع تحقيق السعادة العالميّة.
السعادة الدنيوية
قال الله -عز وجل-: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} (النساء: 77)، وقال -جل وعلا-: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)} (غافر: 39)، والمتاع: هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع ويفنى، فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على انقضائها وزوالها فتتبدل صحتها بالسقم، ووجودها بالعدم، وشبيبتها بالهرم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت، فتفارق الأجسام النفوس، وعمارتها بالخراب، واجتماعها بفرقة الأحباب، وكل ما فوق التراب تراب.
حال النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته
مرّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- والنبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأى عمر - رضي الله عنه- أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ - صلى الله عليه وسلم - فبكى، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يُبْكِيكَ؟، فَقُال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ»، في هذا الحديث بيان لما كان يعيشه النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته من حياة التقشف والزهد إيثارًا للحياة الباقية على الدار الفانية، وفيه فضيلة الزهد والاكتفاء بالقليل من العيش، وكونه من أخلاق النبيين -عليهم السلام-، وسيرة سيد المرسلين ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما زهد في الدنيا اختيارًا؛ فقد كان بإمكانه - صلى الله عليه وسلم - أن ينعم بالدنيا وزهرتها، وأن تصير له الجبال ذهبًا، وهذا يدل على أن الزهد سلوك إسلامي فاضل مشروع، ولا سبيل لإنكاره، وقد أمر به - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، فدل ذلك على استحبابه؛ لأنّ أقل مقتضيات الأمر الاستحباب والندب.
حقيقة الدنيا ومآلها
والمؤمن إذا علم حقيقة الدنيا ومآلها قاده ذلك إلى الرضا النفسي، والمرونة، وعدم التعلق بزينتها، وهذا الأمر يؤثر على سلوكياته كلها فيجعله سمحا لينا سهلا، قال -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} (سورة الرعد: 28-29).
ذكر الله يزيل القلق والإضطراب
في هذه الآية علامة للمؤمنين، فإن المؤمن الحق يزول قلقه واضطرابه بذكر الله، وحقيق للقلوب وحري بها ألا تطمئن لشيء سوى ذكره -سبحانه-، فإنه لا شيء ألذّ للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له، يكون ذكرها له، ولو كان المراد بذكر الله كتابه الذي أنزله ذكرى للمؤمنين، فعلى هذا معنى طمأنينة القلوب بذكر الله أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه تطمئن لها، فإنها تدل على الحق المبين المؤيد بالأدلة والبراهين، وبذلك تطمئن القلوب، فإنها لا تطمئن القلوب إلا باليقين والعلم، وذلك في كتاب الله، مضمون على أتم الوجوه وأكملها، وأمّا ما سواه من الكتب التي لا ترجع إليه فلا تطمئن بها، بل لا تزال قلقة من تعارض الأدلة وتضاد الأحكام.
سعادة الإنسان في الحياة الدنيا
وقد شرع الإسلام من الأحكام والضوابط ما يكفل للإنسان سعادته في الحياة الدنيا، مع تأكيد أن السعادة الكاملة في الآخرة، والحياة الدنيا ليست سوى سبيل إلى الآخرة، وأنّ الحياة الحقيقيّة التي يجب أن يسعى لها الإنسان هي الحياة الآخرة، قال الله -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} (سورة النحل: 97)، وهنا تعليق الحياة الطيبة لمن عمل صالحًا، فمن عاش لله وتلذّذ بطاعة الملك الرحمن الجبار القادر فله الحياة الهنيّة والسعادة الدنيويّة، وقال -تعالى-: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (سورة القصص: 77).
لا تنس نصيبك من الدنيا
فالدنيا وإن كانت زائلة إلّا أنّ الله أمرنا ألّا ننسى نصيبنا منها بالمشروعات والمباحات، وجاء في تفسير ابن كثير: أَيِ: اسْتَعْمِلْ مَا وَهَبَكَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْجَزِيلِ وَالنِّعْمَةِ الطَّائِلَةِ، فِي طَاعَةِ رَبِّكَ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، الَّتِي يَحْصُلُ لَكَ بِهَا الثَّوَابُ فِي الدار الآخرة. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَيْ: مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكَحِ، فَإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، وقال -تعالى-: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} (سورة التوبة: 38)، وهنا يُبيّن -جلّ وعلا- أنّ السعادة الدنيوية بأوجهها كافة ما هي إلّا متاع قليل مقارنة بملذّات الآخرة، ومتى حقق المسلم الإيمان بالله -تعالى- صار صاحب مبدأ يسعى لتحقيقه، فتكون حياته تحمل معنىً ساميًا نبيلًا يدفعه إلى العمل الصالح ومجاهدة نفسه.
سعادة المؤمنين
والمؤمنون سعداء بربّهم، سعداء بفعلهم الطاعات، وذكرهم لله، علموا حقيقة الدنيا فاطمأنت أرواحهم، وارتقت عنها، وآمنوا بأركان الإيمان وحققوه قولًا وعملًا؛ فرضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولًا، ورضوا بما قدر لهم فسكنت أنفسهم للقضاء والقدر، وعلموا أنّ رزقهم لن يخطئهم، فارتقت أرواحهم واشتغلت بالعبادة غير متناسية نصيب الدنيا، لكن الهم هم الآخرة، فرزقهم الله الرضا والسعادة، وانشرحت قلوبهم بلا إله إلا الله، وعاشوا الحياة بحلوّها ومرها لله، لا تحمل همًّا آخر إلا رضا الله.
السعادة ال تعني الراحة
إنّ السعادة لا تعني الراحة التي بمعنى الكسل والخمول، وإنّما راحة القلب التي هي الانشراح والرضا والسكينة والطمأنينة، وغالبا لا تأتي السعادة إلا بالكد والجهد والعمل، فترى كثيرًا من الناس بأعلى درجات الراحة والفراغ إلّا أنّ الملل يلاحقهم والتعاسة تكاد تقتلهم، ومتى حدد الإنسان هدفه من الحياة، واستقرّ الإيمان في قلبه، واستلذّ بعبادة ربه، فاز بالسعادة الدنيويّة وامتلأ قلبه سكينة ورضا.
لاتوجد تعليقات