السعادةفي السّنّة النّبويّة – السعادة الحقيقية المستمرة الحلقة الأخيرة
ما زال حديثنا مستمرا عن السعادة في السنة النبوية، وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن مظاهر السعادة وآثارها في السّنّة النّبويّة، وذكرنا منها: الحياة الطيبة، والبشارة بالخير، والثناء الحسن، الرؤيا الصالحة، والعناية الربانية، والقبول في الأرض، ومحبة الله -تعالى-، وحسن الخاتمة، ونيل الشفاعة، واليوم نكمل ما بدأناه.
ثامناً: دخول الجنة ورضا الرب - تبارك وتعالى
قال -تعالى-:{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} (المائدة: 119). من مظاهر سعادة المؤمنين الصالحين في الآخرة دخولهم الجنة ورضا الرب -تبارك وتعالى- عنهم، قال -تعالى-:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 27 -30)، وعن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَفَعَل، ثُمَّ قَالَ: وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».
معنى الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً
«من رضي بالله ربًّا» أي: من حيث كونه ربًّا له، ورضي بربوبيته على وفق قضائه وقدره، من خيره وشرّه، وحُلْوه، ومره (وَبِالإسْلامِ دِينًا) أي: من حيث الدين، ورضي بشرائعه، وأحكامه، من المأمورات والمنهيات (وَبِمُحَمَّدِ نَبيًّا) أي من حيث كونه رسولًا، ورضي برسالته الموجبة لمتابعته في أقواله، وأفعاله، وأحواله، ومعنى رضيتُ بالشيء، قنِعتُ به، واكتفيت به، ولم أطلب معه غيره، فمعنى الحديث: لم يطلب غير اللَّه -تعالى-، ولم يسع في غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد- صلى الله عليه وسلم - (وَجَبَت لَهُ الْجَنَّةُ) أي: ثبتت، وتحقّقت، وعبّر بالماضي مبالغةً في تحقق وقوعها، وفي الحديث فضل عظيم لمن اتّصف بالرضا المذكور، حيث وجبت له الجنّة، وذلك لأنّ رضا العبد بهذه المذكورات دليل على ثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة الإيمان قلبه، فتسهل عليه الطاعات، وتلذّ له.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يَدْعُو يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَمَامَ النِّعْمَةِ»، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ تَمَامُ النِّعْمَةِ؟ قَالَ: دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا أَرْجُو بِهَا الْخَيْرَ، قَالَ: فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَالْفَوْزَ مِنَ النَّارِ». سأل النبيّ- صلى الله عليه وسلم - الرجل سؤال امتحان، فقال الرجل دعوة أريد بها خيرًا، وجوابه من باب الكناية أي: أسأله دعوة مستجابة فيحصل مطلوبي منها، ولما صرح بقوله خيرًا، فكان غرضه المال الكثير كما في قوله -تعالى-: {إن ترك خيرًا} (البقرة: 180) فردّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله إنّ من تمام النعمة.. إلخ، وأشار إلى قوله -تعالى-: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} (آل عمران: 185) والأظهر أنّ الرجل حمل النعمة على النعم الدنيوية الزائلة الفانية، وتمامها على ما دعاه في دعائه فردّه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ودلّه على أن لا نعمة إلّا النعمة الباقية الأخرويّة، فقال- صلى الله عليه وسلم -: «إنّ من تمام النعمة دخول الجنة» أي: ابتداء (والفوز) أي: الخلاص والنجاة من النار.
نعيم أهل الجنة
ينادي الله -تعالى- أهل الجنة بنسبتهم إليها تذكيرًا لهم بهذه النعمة العظيمة التي أنعم بها عليهم «فيقولون: لبيك ربنا وسعديك «أي: إجابة بعد إجابة، وإسعادًا بعد إسعاد «فيقول: هل رضيتم؟ «أي: هل رضيتم بما أعطاكم ربكم من الجنة ونعميها؟ أو هل رضيتم عن ربكم؟ «فيقولون: وما لنا لا نرضى «أي: ما المانع لنا من الرضا؟ وقد غمرتنا بفضلك وإحسانك وأعطيتنا ما لم يكن يخطر لنا على بال،» وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك «إنّ من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويصحّ ولا يسقم، ويشبّ ولا يهرم، ويحيا ولا يموت. «فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ «أي: وهل هناك نعيم أعظم من النعيم الذي نحن فيه؟ «فيقول: أُحِل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا «أي: فيقول الله -تعالى- لهم: نعم هناك ما هو أعظم نعمة، وأكثر سعادة من الجنة وما فيها، وهو الرضوان الإلهي الذي لا يساويه شيء من نعم الله، فإذا أردت أن أمنحكم السعادة العظمى، وقد أردت لكم ذلك منحتكم الرضوان الدائم الذي لا سخط بعده.
ودلّ هذا الحديث على أنّ نعيم أهل الجنة لا يعدله نعيم، ولا تساويه سعادة أخرى، وأن الله يعطي أهل الجنة ما يرضيهم، ويقرّ أعينهم، ومن السعادة التي يمنحها الله أهل الجنة رضوانه عليهم الذي وصفه الله -تعالى- بأنه أكبر من كلّ نعيم، وأعظم من كلّ سعادة، حيث قال -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} (التوبة: 72) وإنما كان هذا الرضوان أكبر لأنّه سبب كل فوز وكرامة، وطريقٌ إلى رؤية الله -تعالى.
تاسعاً : رؤية الرب - عزّ وجلّ- يوم القيامة
وأي لذة وأي سعادة تضاهي رؤية الربّ -تبارك وتعالى-؟! قال -تعالى-:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: 22 -23)، وقال -عزّ وجلّ-:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس: 26)، وهذه النعمة الكبيرة أعظم مظهر وأثر على الإطلاق لمن سلك طريق السعادة، فاللهمّ إنّي أسألك رؤية وجهك الكريم والقارئين أجمعين.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ -تبارك وتعالى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ».
رضا أهل الجنة وشكرهم
ما أعظم الرضا! وما أروع الشكر من جانب أهل الجنة! وما أوسع فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، وتكريمه إياهم! إنّ المؤمنين إذا زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة فرحوا بأنّهم فازوا فحمدوا وشكروا، وكبروا، وأثنوا، فإذا ما تمتعوا بنعيم الجنة بلغ بهم السرور غايته، ووصل بهم الفرح والابتهاج منتهاه، ولم تطمح نفوسهم إلى شيء بعد ما هم فيه من نعيم، وعندئذٍ يتجلّى لهم الرب الكريم، بسؤال الفيض والتكريم، هل تريدون شيئًا فوق ما أنتم فيه أعطيكموه؟ فيقولون: ماذا بعد هذا الفضل الكبير؟ ألم تكرمنا بتبييض وجوهنا؟ وبالنور الذي يسعى بين أيدينا وبأيماننا؟ ألم تنجنا من النار وعذابها؟ ألم تدخلنا الجنة وتوسع علينا من نعيمها؟ لقد وجدنا فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، ورأينا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فماذا ننتظر بعد هذا؟ لك الحمد ربنا ولك الشكر، فيكشف الله الحجاب بينه وبينهم، ويمنحهم قوة في أبصارهم يرون بها نوره وجلاله، فيحسّون السعادة التي ينسون معها كل نعيم، ويستصغرون بجوارها كل ما أعطوا من متع وسرور، فاللهمّ اجعلنا من المتقين الفائزين برؤية وجهك الكريم.
حُب أهل السعادة
عَنْ جَرِيرٍ بن عبد الله -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَظَرَ إلى الْقَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي الْبَدْرَ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا. ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}»، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعدّ لهم ويحب الله -سبحانه- لقاءهم فيجزل لهم العطاء والكرامة.
وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه، ويكره الله لقاءهم أي يبعدهم عن رحمته وكرامته ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته -سبحانه- لقاءهم.
لاتوجد تعليقات