رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 13 يونيو، 2017 0 تعليق

الساعي إلى سبيل الرشاد(2) – تأملات قرآنية من سورة عبس – عتاب الله تعالى لنبيه عتاب تلطف ولين

 

استكمالا لما بدأناه في المقال السابق من تأملات في سورة عبس، وذكرنا سبب نزول السورة، وأن الآثار قد دلت على أن سبب النزول: أن الساعي هاهنا كان قاصداً سبيل الرشاد الذي هو ضد الغي، وهو: اسم جامع لكل ما يرشد إلى المصالح الدينية والدنيوية، وهو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة.

{إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}

- هذه الآية؛ كقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.

وإنْ: شرطية، ليست نافية، وحكى الماوردي أنها بمعنى: (ما المصدرية)، أي: ذكر ما نفعت، أو ما دامت تنفع، ومعناها قريب من معنى الشرطية، ومعنى هذا يشبه قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}.

وسبب ذلك: أن التعليم والتذكير له فاعل، وله قابل، وإن لم يتعلم ولم يتذكر؛ فقد وجد أحد طرفيه، وهو الفاعل دون المحل القابل؛ فحيث خص بالتذكير والإنذار ونحوه المؤمنين فهم مخصوصون بالتام النافع الذي سعدوا به؛ وحيث عمم فالجميع مشتركون في الإنذار الذي قامت به الحجة على الخلق، سواء قبلوا أم لم يقبلوا.

فائدة:

فكل تذكير ذكر به النبي [ المشركين حصل به نفع في الجملة، وإن كان النفع التام هو للمؤمنين، الذين قبلوه واعتبروا به، وجاهدوا المشركين وأقاموا عليهم الحجة، فيكون مأموراً أن يذكر المنتفعين بالذكرى، تذكيراً يخصهم بها، غير التبليغ العام الذي تقوم به الحجة.

{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى}

- أي: استغنى بماله وقوَّته عن سماع القرآن والهداية والموعظة؛ فأنت له تصدى، أي: تتعرض بالإقبال عليه، وتصغي له، رجاء أن يسلم ويهتدي!

- ويدخل فيه هذا المعنى: أنه استغنى عن الله؛ فترك عبوديته جانباً، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها، الذي لا نجاة لها، ولا فلاح إلا بأن يكون محبوبها ومعبودها، الذي تقصده وتتوجه إليه.

وهذا هو الاستغناء المذموم الناتج عن جهلين:

- أحدهما: جهل العبد بربه.

- والثاني: جهله بمعرفة نفسه.

{وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى}

- وفيها قطع الطمع وبتر الرجاء عن هداية كل الخلق وتزكيتهم؛ لأن هذا حرص زائد على القدر مُفوّت لمصالح جمة، قال الرازي في تفسير الآية: «أي: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم، إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم».

وفيه إشارة إلى أن من تصدى لتزكيتهم من الكفار لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلاً.

{وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى}

- أي: وصل إليك حال كونه مسرعاً في المجيء إليك طالباً منك أن ترشده، وتعظه بمواعظ الله.

فالآية: أثبتت له سعياً وقصداً في تحصيل المطلوب، وهذا السعي يبعث على المقصود والمطلوب قصداً وطلباً، وعلى الخلق دعوة ونصحاً وحرصاً، كما قال تعالى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}.

< وذِكرُ السعي زائداً على قدر المجيء، فيه إشعار بمدحه من جهة أن السعي فيه معنى الإسراع والإقبال، وهذا شرط في تحقق الإنابة؛ فالإنابة تتضمن أربعة أمور: محبة الله، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه.

والمنيب إلى الله: المسرع إلى مرضاته، والراجع إليه كل وقت، المتقدم إلى محابه؛ فهذا الذي جاء يسعى، جاء منيباً مقبلاً على تحصيل المطلوب، ولما كان حاله كذلك؛ فإن رجاء تذكره حاصل لا محالة؛ لأن الإنابة قرينة التذكر وسبب في تحصيل الخشية، فقال تعالى: {وَهُوَ يَخْشَى}.

- والخشية: خوف مقرون بمعرفة؛ أي: معرفة جامعة بالله رباً ومعبوداً وبأسمائه وصفاته، وبشرعه: أمره ونهيه، وبوعده ووعيده، والخشية تكون لمن عنده علم، قال تعالى: {إنما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إني أتقاكم لله، وأشدكم له خشية»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار جهلاً».

{فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى}

أي: فأنت تتشاغل بغيره، وتعرض عن الساعي إلى سبيل الرشاد.

- وتقديم ضميره صلى الله عليه وسلم  - أي: {فَأَنتَ} - على الفعلين على أن مثلك خصوصاً لا ينبغي أن يتصدى للمستغني، ويتشاغل عن الفقير الطالب لحق (17).

تنبيه: فرق ظاهر بين اشتغال النبي صلى الله عليه وسلم  بهداية المعرض عن هداية المقبل؛ وبين تشاغله بفضول المباح عن واجب التبليغ، فالأول اشتغال مخل بالكمال؛ لعدم مراعاة الأولوية فيه، والثاني تشاغل مخل بالأصل؛ فكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم  من قبيل الأول (18) فتأمل.

فوائد دعوية

لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم

- الأولى: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله تعالى - في (تيسير الكريم) (7/568): «وهذه فائدة كبيرة هي المقصودة من بعثة الرسل، ووعظ الوعاظ، وتذكير المذكرين، فإقبالك على من جاء بنفسه، مفتقراً لذلك، مقبلاً، هو الأليق الواجب؛ وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني، الذي لا يسأل، ولا يستغني لعدم رغبته في الخير، مع تركك من هو أهم منه؛ فإنه لا ينبغي لك؛ فإنه ليس عليك ألا يزكى؛ فلو لم يتزكَّ فلست بمحاسب على ما عمله من شر، فدل هذا على القاعدة المشهور، أنه: «لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة» وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم المفتقر إليه.

تقديم صاحب الحكمة

- الثانية: إذا كان المدعو صاحب حكمة - أي: أنه من أهل الحق قائم به -؛ فهذا يقدم على غيره في التزكية والتذكر؛ لأنه جدير بالرعاية، ومصلحته راجحة على مصلحة غيره.

شأن مقوم الأخلاق

الثالثة: قال ابن عاشور: «بل شأنُ مقوّم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة؛ فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجاً واحداً، بل الأمر يختلف؛ فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد؛ بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع؛ إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص (19)» أ.هـ

أهم ما أرشدت إليه الآيات:

- إن الساعي ابن أم مكتوم -رضي الله عنه - كان قاصداً سبيل الرشاد، وهي الهداية للإيمان والأعمال الصالحة.

- إن علة التولي ليست لمجيء الأعمى ذاته، إنما لمجيئه عند انشغال النبي صلى الله عليه وسلم  بهداية المعارض.

- إن عتاب الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم  عتاب تلطف ولين، وليس عتاب شدة وصعوبة.

- إن الساعي ذُكر بلقب يكرهه الناس، مع أن منتهى معاني الآيات تفيد مدحه والثناء عليه.

- كان ابن أم مكتوم كفيف البصر، لكنه وقّاد البصيرة؛ أبصر الحق وآمن به، وجاء مع عماه يسعى طالباً المزيد.

- لا يجوز الإعراض عمن يرجى تزكيته، فكيف والحال لمن كان مقطوعاً بتزكيته؟!

- تقديم التزكية على التذكر من باب تقديم التخلية على التحلية.

- التزكية متضمنة لتحصيل الخير ودفع الشر، أي: هي معنى زائد على قدر التطهر من الذنوب فقط.

- الإيمان والقرآن غذاء القلب المتزكي، والتزكي عام لكل من آمن بالرسول، أما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها.

- طريق الرشاد المتضمن التزكية والتذمر مسلّم للرسل، فلا يتحصل إلا من طريقهم تعليماً وبياناً ودعوة وإرشاداً.

- إن العبد إذا أناب إلى الله -تعالى- أبصر مواقع الآيات والعبر؛ فزال عنه الإعراض والعمى والغفلة.

- بحسب قوة الإنابة والتذكر تشتد حاجة العبد إلى معرفة الأمر والنهي.

- المنيب المتذكر هو من أهل الحكمة؛ فيجب أن يقدم على غيره في خطاب التزكي والتذكر.

- الساعي إلى سبيل الرشاد - وبعد أن يظفر بالدليل الهادي المفصل - يحتاج إلى أن يهتدي به وينتفع منه، وهذا لا يحصل إلا بإزالة الأسباب المعوقة لذلك.

- إذا حصل نوع من الذهول والغفلة احتاجت النفس على تذكر علوم الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة؛ لتحصيل مطالب الرسالة الضرورية من التوحيد والأمر والنهي والوعد والوعيد.

- إذا خُصَّ المؤمنون بالتذكير فهم مخصوصون بالتذكير التام النافع، وحيث يعمم فالجميع مشتركون فيه على أساس التبليغ العام الذي قامت به الحجة.

- الاستغناء المذموم يكون من جهة جهل العبد بربه، أو جهله بنفسه، وكلاهما موجبه الهلاك والطغيان.

- جاء ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - إلى النبي [ ساعياً سعي إنابة وإقبال وقصد وخشية.

- صاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم الشرعي النافع.

- اجتمعت لهذا الصحابي أسباب تكميل القوتين: العلمية، والعملية الإرادية.

- تشاغل النبي صلى الله عليه وسلم  من جنس التشاغل بتعليم المعارض عن تعليم المقبل، وهو تشاغل يقدح في الكمال لا بالأصل.

- لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة.

- ينبغي الإقبال على طالب العلم، المفتقر إليه، الحريص عليه أزيد من غيره.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك