رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. جلال الدين محمد صالح 31 يناير، 2019 0 تعليق

الخلاوي القرآنية في إريتريا

أقدم تعليم عرفته إريتريا هو التعليم في (الخلاوي القرآنية)، وتُعد (الخلاوي القرآنية) مَعْـلَماً من معالم التراث الإسلامي في كل المدن الإريترية ذات الوجود الإسلامي المؤثر؛ فهي إرث ثقافي عريق، ونمط تعليمي تليد، ما زال المسلمون الإريتريون يتوارثونه أباً عن جد، وخلفاً عن سلف، ويلتزمونه أينما حلّوا واستقروا، تعبيراً عن اهتمامهم بالقرآن الكريم، وتعميقاً لانتمائهم الثقافي، وتثبيتاً لهويتهم الإسلامية؛ لذا لا غرابة أن تجعل كل المدن الإريترية من (الخلاوي القرآنية) أول محاضن التنشئة الإسلامية، وأولى خطوات التربية الصحيحة في الاهتمام بالأبناء وتربيتهم على القيم النبيلة.

     وقد عرفت أرتيريا العديد من (الخلاوي القرآنية) التي أشرف عليها وجهاؤها من أهل الفضل والإحسان، وقام بالتعليم فيها مشايخ كرام، مَـنَّ الله عليهم بحفظ كتابه، والسهر على تعليمه وتلقينه، فحازوا بذلك رضوان الله، ثم تقدير المجتمع، وتكريمه إياهم، وذكرهم بخير في حياتهم وبعد مماتهم «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»؛ فما من شاب مسلم وُلد في إريتريا ونشأ فيها وإلا وكانت الخلوة أول مكان جلس فيه بين يدي الشيخ، يكتب بأصبعه السبابة على الأرض الحروف الهجائية، ثم على اللوح بقلم مَـبْـرِيٍّ من القصب، يغمسه في مداد أسود، يُعرف بالدواة.

معنى الخلوة

     والخلوة في الأصل من الاختلاء، أي الانفراد في مكان لا مخالطة فيه، ثم صار مصطلحاً يُطلق على المكان الذي يختلي فيه معلم القرآن مع الصبيان بعيدًا عن الضوضاء؛ ليعلمهم نطق القرآن وكيفية حفظه على رواية من الروايات المتداولة، في تلقينه وتعليمه.

نشأة الخلاوي وتطورها

     دخل الإسلام إريتريا منذ هجرة الصحابة -رضي الله عنهم- في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الحبشة في عام 614م، ثم أخذ الإسلام ينتشر في مختلف الأقاليم، وكانت إريتريا أول موضع تطؤه أقدام الصحابة خارج الجزيرة العربية. أما بعد رجوع الصحابة فلم ينته النزوح من مكة والمدينة، فقد قدم إلى إريتريا بعض الدعاة المسلمين، وتزاوجوا مع الإريتريين وتناسلوا وتكاثروا، وساهموا في نشر الإسلام، وأقاموا (الخلاوي القرآنية)، وقاموا بدور في نشر اللغة العربية والفقه الإسلامي، وبعد ذلك كان انتشار الإسلام بواسطة التجار ثم العلماء من أهل البلاد، ولاسيما في العهود التي ساد فيها الجهل وعمّت الأميّة؛ فكانوا يقيمون الخلاوي لتحفيظ القرآن وتدريس العلوم الدينية وتعليم الناس مبادئ الإسلام.

علوم أخرى

     وبجانب القرآن الكريم كان يتم تعليم اللغة العربية والنحو (ألفية بن مالك) والفقه والحساب، وغير ذلك من العلوم في أمور الدين، في الخلاوي (الكتاتيب) في شرق إريتريا وغربها، وغيرها من المناطق التي يقطنها المسلمون، ثم يشدون الرحال إلى خلاوي شرق السودان مثل خلاوي (الشيخ القرشي), وشمال السودان والجزيرة في معاهد وخلاوي أم درمان وأم ضواً بان وبربر.. إلخ، وبعد ذلك يسافرون إلى مصر للاستزادة من التعليم في الأزهر الشريف وغيره من مراكز اللغة العربية والدين الإسلامي.

هموم التربية

     يصطحب الأب ابنه إلى (الخلاوي) وهو يحمل هموم تربيته على القيم الإسلامية؛ فالقرآن في حـس الآباء ليس هو محل لتعلُّم القراءة والكتابة فحسب، وإنما هو فوق ذلك بيئة مناسبة لتقويم سلوك الأبناء وتوجيههم وجهة حسنة، تحفظ حياتهم من الانزلاق في الانحرافات الأخلاقية.

نظام الخلاوي التعليمي

     الخلوة تتبع نظام التعليم الفردي، الذي يمثِّل فيه كل طالب وحدة أو فصلاً قائماً بذاته غير مرتبط بالآخرين في مقدار ما يتحصل عليه من حفظ للقرآن الكريم، أي لا توجد فوارق زمنية (فصل أولى، ثانية، ثالثة)، بل كل طالب يسير قدر طاقته في الاستيعاب والحفظ، كما تأخذ بالاقتصار على تعليم مادة واحدة في الوقت الواحد، وبعد الانتهاء من المادة يتم الانتقال إلى الأخرى، كما أنَّ الخلوة لا تضع حدّاً لعدد الملتحقين بها, كما لا تحدد عدداً من السنوات للبقاء بها.

المعلم الواحد

     وتعتمد الخلوة على نظام المعلم الواحد، فالشيخ يمكن أنْ يشرف على عدد من الطلاب قد يصلون إلى المائة بمعاونة المتقدمين من الطلبة في القراءة له في التدريس؛ حيث يتم توزيع الطلبة الجدد على الطلبة المتقدمين في الدّراسة ليقوموا بتدريس إخوانهم, كما يُشرف الشيخ على هؤلاء المتقدمين في الدراسة مع مراقبة قراءة إخوانهم, وهذه الطريقة قد أثبتت نجاحها، وأعطت ثماراً طيبة في معرفة المسلمين لحفظ القرآن الكريم طوال القرون السابقة، كذلك فإن اللوح والدواة والقلم القصبي وأصبع الطفل والمصحف (الختمة) كما يسمّونه، والأرض الرملية، كلها أدوات تعلُّم ضرورية وأساسية.

خلاوي القرآن والرعاة

     وإذا كان في القرآن طلاب يشتغلون بالرعي ولا يمكنهم الحضور على النحو الذي يلتزم به من سواهم؛ حملوا معهم ألواحهم إلى البر من بعد أن يرمي عليهم الشيخ المقطع الذي يتوجب عليهم حفظه، وهنالك في الخلاء وتحت ظل الأشجار وعلى التلال وبطون الأودية ينفرد الراعي بلوحه فيحفظ مقطعه، وفي المساء بعد عودته يعرض على الشيخ ما حفظه فيجيزه، وفي الصباح قبل الانطلاق إلى الرعي يرمي عليه الشيخ مقطعاً جديداً وهكذا.

العقوبة في (الخلاوي القرآنية)

     يُعطي الأب لشيخ القرآن كامل الصلاحية في تهذيب ابنه وتأديبه من أول يوم يسلمه فيه، حتى لو اقتضى الأمر ضربه، قائلاً له: «لنا العظم، ولك اللحم»، وبقدر ما تُعطي هذه المقولة الشيخ صلاحية ضرب الابن تضع حداً لهذا الضرب وتقيده؛ بحيث لا يبلغ ضرره إلى القدر الذي يكسر العظم, وبهذا يدرك الشيخ حدود سوطه أو عصاه فلا يتعداها؛ فهي مثل عقد تربوي بينه وبين الأب في معاقبة الابن إذا ما عصى، لا يوقع الشيخ عقوبة الضرب إلا عند عبث الطلاب ساعة الحفظ، وانشغالهم بالمحادثة الجانبية بعضهم مع بعض، أو عند غياب الطالب من غير عذر مقبول أو استئذان مسبق، أو عند إخفاقه في حفظ مقطعه.

دور الخلاوي التربوي

     هناك جملة من الآداب التي يتعلمها طلاب الخلاوي، وتشمل تقديراً خاصاً للشيخ وللكبير واحترامهما، والتعاون فيما بينهم في تقسيم رائع للعمل؛ فمنهم من يُحضر ماء الشراب، ومنهم من يتكفل بمياه الوضوء، وآخرون يقومون بتنظيف الخلوة من التراب، وهم يستمعون لتعاليم شيوخهم، كما يرتدون الأبيض من الثياب، وكذلك يحاولون تمثّل صفات حامل القرآن: «أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً»، وكذلك عندما ينتهي طلاب الخلاوي من عرض ألواحهم يقومون بمسحها في مكان لا تدوسه الأقدام، وتوضع الألواح في مكان مرتفع تكريماً لمكانتها, وهذا من باب احترام القرآن والأدب معه.

دور الخلاوي الاجتماعي

     يكتسب الشيخ هالة واحتراماً خاصاً يصبغها عليه تفرغه وانقطاعه للقرآن وهجرانه الدنيا لتعليمه وتحفيظه؛ فإذا طلب الإبريق جاءه مملوءاً بالماء، وإذا طلب السراج جاءه مضاء، وهو ذو حيثية كبيرة بين أهل القرى المحيطة الذين يتوسمون فيه الصلاح والخير والعدل، وكان في الماضي يقوم بدور القاضي الذي يقضي في النزاعات، والمجير الذي يستجير به المظلوم، والأمن الذي يستظل به الخائف، ويساعد الطلاب شيخهم في مزرعته التي هي وقف للخلوة, وربما تمتد مساعدتهم لأهالي القرى المحيطة في روح تعاون نادر.

التكافل الاجتماعي

     ومن قرى الريف ما ليس فيه (قرآن) وشيخ متفرغ لتعليم القرآن، إما لأن أهل القرية رحّل، تسوقهم المواشي إلى حيث الكلأ ومنابت العشب، وليس لهم استقرار، وإما لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف القرآن، وإما لأنهم لم يجدوا شيخاً مناسباً، أو لسبب آخر من الأسباب، وفي هذه الحال يأتي الحريصون منهم على تعليم أبنائهم القرآن أقرب مدينة إلى ريفهم، ويبحثون عمن يتكفل بتعليم ابنهم القرآن من الأسر الميسورة، وقد عرفت كثير من المدن الإريترية هذا النوع من التكافل في تعليم القرآن، وتبنت بعض أسرها أطفالاً من أبناء القرى، يأتي بهم آباؤهم، ويسندون أمر تعليمهم القرآن إلى أسرة من الأسر، إما لقرابة تربطهم، وإما لمعرفة سابقة تصلهم، وإما من باب الإحسان والتعاون على البر والتقوى، ومن جانبهم لا يقصر هؤلاء الطلاب الوافدون في خدمة الأسرة المضيفة، والمشاركة في تقديم الخدمات المنزلية، مثلهم في ذلك مثل أبنائها.

دور الخلاوي الثقافي

الخلاوي تعلم بها الكثيرون من الإريتريين، وهي مراكز إشعاع ثقافي؛ فهي مصدر تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن ومبادئ الدين الإسلامي، ثم يشق الطالب بعد ذلك طريقه إلى الأزهر أو غيره من معاهد العلوم سواء الدينية أم الدنيوية.

القرآن والمدارس الحكومية

     من شدة حرص كثير من الأسر الإريترية على ارتباط أبنائها بالقرآن؛ ظلت تسعى إلى التوفيق بين دراستهم في المدارس الحكومية وقراءتهم في القرآن، فإذا كانت الدراسة صباحاً من نصيب المدرسة فإن الفترة المسائية تكون من نصيب القرآن، وإذا تعذر التوفيق بينهما لأمر ما كأن تكون الدراسة المدرسية صباحاً ومساءً؛ فإن الطالب يأتي إلى الشيخ مبكراً في الصباح، ويكتب مقطعه من القرآن ثم يذهب إلى المدرسة، وفي المساء بعد المغرب يحفظ مقطعه، ويعرضه على الشيخ وهكذا، مثله في ذلك مثل الراعي، وعلى هذا المنوال ارتبط نفر من الطلاب بالقرآن بالرغم من دراستهم في المدارس الحكومية، ونمت فيهم الثقافة القرآنية، وتكونت عندهم حصانة إسلامية، تذكرهم بماضيهم الإسلامي كلما حاولت فئة ضالة إضلالهم.

تراث لابد من حمايته

     هذا التراث الإريتري في العناية بالقرآن وتربية الأبناء على تلاوته وحفظه هو بالتأكيد تراث كل مسلمي إريتريا، في مدنهم وقراهم، ولا بد من المحافظة عليه، وإحياء ما اندرس منه واختفى، ففي ذلك بناء الشخصية الإسلامية الإريترية على أسسها الحضارية، وربطها بثقافتها الإسلامية، وحمايتها من التلوث بالأفكار التحريفية، والتوجهات الانحرافية، ولابد من تطوير الخلاوي القرآنية بحيث تواكب تطور عصرها، ويجد فيها الطالب من المحفزات ما يدعوه إلى التوجه إليها، ويشجعه على القراءة فيها، وذلك بتكوين لجان مهتمة، وجمعيات متخصصة في التعليم القرآني، توثّق تاريخ الخلاوي القرآنية في إريتريا كلها، وتاريخ من قام عليها من المشايخ الذين علموا فيها، والأسر التي أنشأتها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك