رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 13 مايو، 2014 0 تعليق

الحكمة الإلهية في الفقر والغنى


ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (الحكمة الإلهية في الفقر والغنى)، التي تحدَّث فيها عن الفقر والغنى وأن الله تعالى قسَّم أرزاقَ العباد، ورفع بعضَهم فوق بعضٍ درجات، ثم بيَّن أنهما ابتلاءٌ من الله -تعالى- لعباده، كما ذكر العديد من الآداب التي ينبغي أن يتحلَّى بها الفقير، مُبيِّنًا فضل الفقير الصابر عند الله -جل وعلا-، وختم خُطبته بالآثار السلبية للفقر على المُجتمع، وكيف يتم مواجهته، وكان مما جاء في خطبته:

     الغِنى والفقر ابتلاءٌ من الله تعالى لعبادِه، يُوسِّعُ على هذا ويهَبُه الخيرات؛ ليسمعَ حمدَه وشُكرَه، أو يتجبَّرُ ويطغَى. ويقدِرُ على آخر رِزقَه ويمنعُ عنه شيئًا من الدنيا؛ ليمتحِنَ صبرَه ورِضاه، أو يُعلِنُ تسخُّطَه وجزعَه، قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35).

وعجبًا لحال المؤمن؛ إن أصابَته ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا له، فهو بين مُطالعة الجناية ومُشاهَدة المنَّة، يصبِرُ ويشكُرُ والله أعلمُ بحالِه منه، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14).

التفاوُتُ في الرِّزق هو الذي يُسخِّرُ هذا لذاك، ويُسخِّرُ ذاك لهذا في دورة الحياة، قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (الزخرف: 32).

أي: ليستعملَ بعضُهم بعضًا في حوائِجِهم، فيحصُلَ بينهم تآلُفٌ وتضامُن؛ يُسخِّرُ الأغنياءُ بأموالِهم الأُجراء الفُقراء بالعمل، فيكونُ بعضُهم سببًا لمعاشِ بعضٍ: هذا بمالِه، وذاكَ بأعمالِه.

     وقد يكونُ الفقرُ هو الخيرَ للعبد، قال الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} (الشورى: 27)؛ أي: لشُغِلوا عن طاعته، وحملَهم ذلك على البغي والطُّغيان والتجبُّر على الخلق، قال الله تعالى: {وَلَٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى: 27).

     وإذا ابتُلِي العبدُ بالفقر فإن الصبرَ أجلُّ عبادةٍ في هذا المقام، ومن ضاقَ رِزقُه، وخشُنَت عيشتُه، فلا يضيقُ صدرُه، ولا يتنكَّدُ في حياته؛ فإن معيشةَ رسول الله-صلى الله عليه وسلم - وجُلِّ أصحابه كانت كفافًا، ومتاعُ الدنيا القليل الزائِل لا يستحقُّ الأسَى والحُزن على فواتِها، وحتى تهدأَ النفسُ وتعرفَ قدرَ نعمة الله -تعالى- عليها، وتُؤدِّيَ شُكرَ الله.

جاء التوجيهُ النبويُّ في قول رسولِنا الكريم-صلى الله عليه وسلم -: «إذا نظر أحدُكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخلق فلينظُر إلى من هو أسفلَ منه ممن فُضِّلَ عليه». وزاد مسلمٌ في روايته: «فهو أجدرُ ألا تزدرُوا نعمة الله عليكم».

لقد دعا الإسلامُ الفقراء خاصَّةً كما دعا الأغنياء، إلى أن يُربُّوا أنفسَهم على غِنى النفس، بكبحِ جِماحها، وتهذيبِها لتصِل إلى القناعة والرِّضا بما قسَمَ الله ولو كان يسيرًا.

فلن يفوتَ شيءٌ قسمَه الله تعالى لك في الأزَل، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «وارضَ بما قسَمَ الله لك تكُن أغنَى الناس».

وإن للفقير آدابًا في باطنه وظاهره ومُخالطته وأفعاله:

فأما أدبُ باطنِه: فألا يكون فيه كراهيةٌ لما ابتلاه الله -تعالى- به من الفقر؛ أي: أنه لا يكون كارِهًا فعل الله -تعالى- من حيث إنه فعلُه وإن كان كارِهًا للفقر.

وأما أدبُ ظاهره: فأن يُظهِر التعفُّف والتجمُّل، ولا يُظهِر الشكوَى والفقر؛ بل يستُرُ فقرَه، قال الله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} (البقرة: 273).

وأما في أعماله: فأدبُه ألا يتواضعَ لغنيٍّ لأجل غِناه، قال عليٌّ - رضي الله عنه -: «ما أحسنَ تواضُع الغنيِّ للفقير رغبةً في ثوابِ الله تعالى».

وينبغي ألا يسكُت عن ذكرِ الحقِّ مُداهنةً للأغنياء وطمعًا في عطائِهم.

     وأما أدبُه في أفعاله: فألا يفتُر بسبب الفقر عن عبادة، ولا يمنعَ بذلَ قليلٍ ما يفضُلُ عنه؛ فإن ذلك جهدُ المُقِلِّ، وفضلُه أكثرُ من أموالٍ كثيرةٍ تُبذلُ عن ظهر غِنى، قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} (الحشر: 8)، وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} (البقرة: 273).

فقدَّم وصفَ أوليائِه بالفقر على مدحِهم بالهِجرة والحصر، والله تعالى لا يصِفُ من يحبُّ إلا بما يحبُّ، فلولا أن الفقرَ أحبُّ الأوصاف إليه ما مدحَ به أحبَّاءَه وشرَّفهم به.

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اطَّلعتُ في الجنة فرأيتُ أكثرَ أهلها الفقراء».

     ومع الرِّضا بما قسَمَ الله للفقراء وفضلِهم؛ فإن الإسلام عالَجَ الفقرَ بدعوة الأغنياء إلى البرِّ والإحسان، وكفالة الفقراء ومُشاركتهم آلامَهم، وتنفيس كُرَبهم وبذل العَون لهم، قال رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم -: «السَّاعِي على الأرملَة والمِسكين كالمُجاهِد في سبيلِ الله. وأحسبُه قال: وكالقائم لا يفتُر، وكالصائم لا يُفطِر».

كما عالَجَ الفقرَ بدعوة الفقراء إلى العمل، ونبذ البَطالَة والكسَل، حتى لا يكونوا عالةً على المُجتمع وعلى أنفُسِهم وأُسَرهم.

دفعُ الفقر، والسعيُ في الأرض، وتحصيلُ الرِّزق، والأخذُ بالأسباب أمرٌ مشروعٌ، وسلوكٌ محمود، قال الله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (الملك: 15).

ليجعل الفقيرُ من نفسِه عضوًا حيًّا، يأكلُ بيدِه، يُقيمُ أوَدَه، يحفظُ كرامتَه، يُربِّي أولادَه على العِزَّة، يبني مُجتمعَه، يُسهِمُ في البناء والتنمية، وليكون ذلك عونًا له على طاعة الله، ومعرفتِه، وحُسن الصِّلة به والتطلُّع إلى الآخر، فهي خيرٌ وأبقى.

امتنَّ الله على رسولِه - صلى الله عليه وسلم - بالغِنى بعد الفقر، وأن ذلك نعمةٌ فقال: {ووجدك عائلاً فأغنى} (الضحى: 8).

ومن دُعاء النبي-صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أسألُك الهُدى والتُّقى والعفاف والغِنى».

كما دعا بوفرة المال لصاحبِه وخادمِه أنسٍ-رضي الله عنه -: «اللهم أكثِر مالَه وولدَه وبارِك له فيه».

والرِّزقُ الوفيرُ - عباد الله - ثمرةُ العمل الصالح، قال-صلى الله عليه وسلم -: «من أحبَّ أن يُبسطَ له في رِزقِه ويُنسأَ له في أثَره فليصِل رحِمَه».

وقال-صلى الله عليه وسلم -: «اليدُ العُليا خيرٌ من اليدِ السُّفلَى». واليدُ العُليا المُنفِقة، والسُّفلَى السائلة.

العملُ - عباد الله - بصناعةٍ أو حرفةٍ أو زراعةٍ شرفٌ وكرامة، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم -: «ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكلَ من عمل يدِه».

وسُئل: أيُّ الكسب أفضل؟ قال: «عملُ الرجل بيدِه أو بيعٌ مبرور».

هذا هو السُّلوك السليم، والطريق المُستقيم. أما التسوُّل وسُؤال الناس تكثُّرًا فصفةٌ ذميمةٌ وعملٌ قبيح، قال-صلى الله عليه وسلم -: «ما يزالُ الرجلُ يسألُ الناسَ حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهِه مُزعةُ لحم».

وقال: «من سألَ الناسَ أموالَهم تكثُّرًا فإنما يسألُ جمرًا، فليستقِلَّ أو ليستكثِر».

وهذا يجعلُ المُتصدِّق يتحرَّى في صدقته المُحتاجَ دون غيره، قال -صلى الله عليه وسلم -: «لا تحلُّ المسألةُ لغنيٍّ ولا لذي مِرَّةٍ سوِيٍّ».

وقال: «إن المسألةَ لا تصلحُ إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مُدقِع، أو لذي غُرمٍ مُفظِع، أو لذي دمٍ مُوجِع».

ولا شكَّ - عباد الله - أن ازدياد الفقر في العالم الإسلاميِّ اليوم بسبب إهمال التنمية، وزيادة الديون، وغرق الأمة في الرِّبا، وضعف الأخذ بأسباب التقدُّم العلميِّ والتقنيِّ.

وللفقر آثاره السلبيَّةُ ولاسيما في حال غِيابِ الإيمان أو ضعفِه، يُعدُّ الفقرُ من الأسبابِ الرئيسَة التي تقِفُ وراءَ الرَّذيلة، وضياع الشرف، والفاحشة، والسرقة، والرِّشوة، وأكل أموال الناس بالباطل، وارتفاع مُعدَّلات الجريمة والخُصومات الأُسريَّة؛ بل القتل.

سُئِل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الذنب أكبر عند الله؟ قال: «أن تدعو لله ندًّا وهو خلقَك»، قال: ثم أي؟ قال: «أن تقتُل ولدَك مخافةَ أن يطعمَ معك».

وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } (الأنعام: 151).

     للفقر آثارُه السلبيَّةُ على المُجتمع بما يُثيرُ في النفوس من مشاعر الحِقدِ والبغضاء، وقد يحمِلُ الفقيرُ فاقد الأمل في المُستقبل النقمةَ على المُجتمع، وهنا يأتي دورُ أهل العلم والفِكر والمال بالعمل الصادقِ على مُعالجَة الفقر، ابتغاءَ الأجر، وتحصين المُجتمع من آثار الفقر السلبيَّة، وذلك بفتح آفاق العمل للفقراء، واحتِضانهم في شركاتهم ومُؤسَّساتهم، وتنمية قُدراتهم ومواهِبهم، وإزالة العقَبَات أمامَهم، قال الله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (المزمل: 20).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك