رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل عبدالغفار 15 أغسطس، 2011 0 تعليق

الثبات على المبادئ في زمن المتغيرات والثورات

إنَّ المبادئ السامية، والقيم العليا، والعقائد الصادقة، والأخلاق النبيلة، تظلُّ كلها مُثلاً عليا، حبيسةً في الأذهان، إلى أن يوجد من ينزلها حقيقةً على أرض الواقع، مهما كلَّفه ذلك من تضحيات؛ لأنَّ كل صاحب مبدأ وقيمة لا يمكن أن تبقى مبادئه أو تستمر إلا إذا ثبت عليها، ودعا إليها، وضحَّى من أجلها، أيًّا كان هذا المبدأ وهذه القيمة، فما بالكم بقيم ومبادئ وأخلاق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ لأنها تنزيلٌ من حكيمٌ حميد.

      وكم من إنسان يتصور هذه المبادئ في ذهنه، ويتصدَّى للدفاع عنها في تخيُّله، ويراها هي الحقّ- كل الحقّ- حتى إذا تحوَّل إلى عالم الواقع ترى الفرق الشاسع بين المبدأ والتطبيق، حين يقول ويعجبك قوله، فإذا به يجبن حين مواجهة الواقع، فلا يدافع عن مبادئه ولا يثبت عليها، ويضعُف عن تمثيلها بنفسه، بل ويُفضِّل مواراة الناس بما هم عليه من باطل على مجابهتهم بما هو عليه من الحقّ؛ فتسقط هذه المبادئ في هوَّة سحيقة ما لها من قرار، وتُطوى في عالم النسيان.

      هذا المقدمة تأتي تفاعلاً مع خبر نشرته جريدة المصريون الإلكترونيَّة قبل أيام مفاده أنَّ المدير الفني لإحدى فرق كرة القدم الإسبانيَّة أصدر تعلمياته بتوقف التدريبات أثناء مواعيد الصلاة، وذلك تكريمًا لنجم الفريق وهدافه المالي: (كانوتيه عمر فردريك) الذي اعتنق الإسلام قبل فترة، حيث كان يصر كانوتيه على أداء فريضة الصلاة كلما حان وقتها مهما كانت الظروف، وقد تعرض لأكثر من مرة لخصومات مالية كان يدفعها دون تردد، وقد هدَّد اللاعب بترك الفريق في حال استمر الوضع على هذا الشكل، ما أدى في النهاية إلى إذعان المدير الفني له واحترام المبدأ الذي تمسك به وأصَّر عليه.

      وهناك أخبار كثيرة تروى في هذا الشأن، فهذا شاب آخر من هذه النماذج الرائعة وهو فلبيني الجنسية تقدَّم للعمل في إحدى الشركات الأجنبيَّة، قال للجنة التوظيف التي قابلته: عندي بعض الشروط يجب أن أمليها عليكم أولاً ثم قولوا ما تريدون ولكم الحكم النهائي.

استغرب الجميع بهذا الطلب وأنه سيملي عليهم شروطه بينما هو من يحتاج إليهم.

أثار ذلك حفيظتهم وفضولهم فقالوا له: قل ما تريد؟

      قال: أنا في بطاقتي المدنيَّة اسمي جيمي ولكنَّ الله منَّ علي بنعمة الإسلام قبل ثلاثة أسابيع فقط وسيتغير اسمي من جيمي إلى جميل محمد، ونحن المسلمين نقوم بالصلاة خمس مرات في اليوم فيجب عليكم إعطائي وقتًا مستقطعًا في أوقات الصلاة وسأعوضكم بدلاً عنها بعد الدوام الرسمي.

      يقول ذلك الرجل: إنَّ من المفارقات العجيبة أنَّ جميل محمد هو المسلم الوحيد ضمن المتقدمين ونحن كلنا مسيحيون ولكن جاء اختيار اللجنة عليه لجرأته وإيمانه بمبادئه وعقيدته التي تجلت في شخصيته والثبات على المبدأ ورفض المساومة عليه.

      ولا شكَّ أنَّ الثبات على المبدأ في واقعنا المعاصر أصبح عزيزًا للغاية سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الجماعات، لذلك ننبهر كثيرًا لرؤية مثل هذه النماذج وخاصةً أنها تأتي من أفراد حديثي عهد بالإسلام، برغم أنَّ النماذج التي تركها لنا صحابة رسول الله[ ومن بعدهم من التابعين تفوق ذلك بمراحل.

      ولا شكَّ أنَّ الدعوة الإسلاميَّة اليوم في حاجة ماسَّة إلى هذا المعنى بالذات ولاسيما أنَّها تمر باختبار صعب في مواجهة الباطل، وهي مواجهة شرسة لن يتوانى فيها أهل الباطل عن استخدام كل ما لديهم من أدوات وأسلحة لمواجهة أهل الحقّ.

لذلك كان لزامًا علينا استلهام معاني هذا الثبات من سيرة خير العباد[  فما قامت دعوته[ إلا على هذه القيمة وهذا المبدأ السام.

ومن أول المعاني التي نستلهمها من السيرة المباركة: عدم المساومة على المبدأ مهما كلف ذلك:

      فقد ظل رسول الله[ صامدًا أمام الإغراءات، ولم ينثنِ ويتراجع أمام التحديات وأساليب التهديد والترهيب التي مارسها إزاءه المشركون؛ فلم يساوم قط في دينه، وهو في أحرج المواقف في مكة وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يُتخطفون ويُؤذون في الله أشد الإيذاء، وهم صابرون محتسبون.

      وقد اتخذت مساومة المشركين له في دعوته صورًا شتى من المساومة فقد ساوموه على الدعوة كلها بأساليب التهديد والترغيب - كما جاء في كتب الحديث والسيرة - ثم انتقلوا إلى المساومة على جانب منها للالتقاء معه في منتصف الطريق، كما قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم: 9).

التهديد الـمباشر:

      لجأ المشركون في بادئ الأمر إلى أسلوب التهديد المباشر لثني صاحب الدعوة عن المضي في طريقه المرسوم، فقد نقل عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما- وهو شاهد عيان، قال: (حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحِجْر، فذكروا رسول الله[ فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط؛ سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صرنا على أمرٍ عظيم؛ قال: فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم رسول الله[، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفًا بالبيت، فلمَّا أن مرَّ بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مرَّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: «تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نَفْسُ مُحمدٍ بيده! لقد جئتكم بالذبح»؛ فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنَّما على رأسه طائر واقع، قال: فانصرف رسول الله[ حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم منه، حتى إذا بدأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك؛ إذ طلع رسول الله[ فوثبوا إليه وثبة رجلٍ واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ - كما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم- قال: قيقول رسول الله[: (نعم، أنا الذي أقول ذلك). قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا بلغت منه.

       وقوله: «فإنَّ ذلك لأشد ما رأيت قريشًا بلغت منه»: يعني ما رآه هو، وليس ما رأى غيره، حيث أوذي رسول الله[ بأكثر من ذلك، كما سبق ذكره.

 الـمزاوجة بين الترهيب والترغيب:

      صورة أخرى للمساومة تجلَّت في التلميح بالتهديد والإغراء في آنٍ واحد، وذلك بتوعُّده[ ثم إغرائه وعرض المناصب والمال والنساء عليه، فأبى عليهم.

       فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- قال: اجتمعت قريش للنبي[ يومًا فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ما يرد عليه. قالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة. قالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة فقال: أما والله ما رأينا سخطة أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أنَّ في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، ما ينتظر إلى مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى.

      أيها الرجل: إن كان إنَّما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنَّما بك الباءة؛ فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرًا؛ (وفي رواية ابن إسحق: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً؛ جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفًا؛ سودناك علينا فلا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا؛ ملكناك علينا). فقال رسول الله[: «أفرغت؟» قال: نعم؛ قال: فقرأ رسول الله[: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت: 1- 13)». فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: «لا».

      ربما تساءل بعض الناس: لماذا لم يرض رسول الله[ من باب الحكمة والسياسة بالزعامة والملك على أن يقرر في نفسه اتخاذ الملك والزعامة وسيلة إلى تحقيق الدعوة والدولة فيما بعد، خصوصًا أنَّ للسلطان والملك تأثيرًا قويًّا في النفوس؟

       ولعل الإجابة تكمن في أن النبي[ لم يرض سلوك هذه الوسيلة إلى دعوته؛ لأن ذلك ينافي مبادئ الدعوة نفسها، ولأنَّ المساومة كانت للعدول عن الدعوة، وفي الإسلام: الغاية لا تبرِّر الوسيلة؛ فالله تبارك وتعالى تعبَّد المؤمنين بالوسائل كما تعبَّدهم بالغايات؛ فليس لأحد أن يسلك إلى الغاية التي شرعها الله سبحانه إلا بالوسيلة الشرعيَّة الخاصة التي شرعها الله عزَّ وجلَّ.

 الحذر من استدراج صاحب الدعوة إلى أنصاف الحلول للتنازل عن بعض دعوته:

      فقد روى الإمام الطبري بسنده إلى سعيد بن مينا مولى البَخْتَري قال: «لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله[ فقالوا: يا محمد، هلُمَّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما في يدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك. فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى انقضت السورة».

      إن ما يستنتج من هذه الأساليب الماكرة المتنوعة: أنَّ محاولات أهل الباطل مع أصحاب الدعوات لا تكاد تهدأ أو تفتر؛ إذ يحاولون ترهيبهم وتهديدهم لينصرفوا عن دعوتهم بالكلية، وإذا لم يفلحوا في هذا الجانب حاولوا إغراءهم بشتى الوسائل لينحرفوا - ولو قليلاً- عن استقامة الدعوة وصلابتها، وليرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها، ومن ثَمَّ يطلبون منهم تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق؛ لأنَّ أهل الباطل يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلَّموا في جزءٍ فقدوا مقاومتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة سينتهي إلى تسليم الصفقة كلِّها.

      خلاصة الأمر: أنَّ ثبات أصحاب الدعوات على الطريق الذي تسلكه للوصول إلى هدفها الرئيس وهو التمكين لدين الله في الأرض، أمر يستدعي الاستعلاء على الضغوط والتحديات، والاستعصاء على الإغراء والمساومة، وهو ما يلحظه المتأمل في مواقف النبي[ الشديدة الاستعصاء على الاستدراج والتنازل، مع أنَّه كان في أشد الحاجة إلى المساعدة والنصرة والتأييد لتخفيف الضغط على نفسه وأتباعه.

      على أنَّ المتأمل في النماذج الآنفة الذكر من صور الترغيب والترهيب، والإغراء والمساومة، والاستدراج إلى التنازل وأنصاف الحلول، يلاحظ مدى خطورة التحديات التي كانت تهدد الدعوة في السابق، وهي أيضًا ما يتهددها في الوقت الراهن والتي ربما تستدرجها إلى تنازلات قاتلة، وما أشبه الليلة بالبارحة.

      ولا شكَّ أنَّ المفاصلة التي أمر بها الله عز وجل رسوله[ ضرورية اليوم للحركات الإسلامية والدعاة إلى الله عز وجل؛ إذ إنه ليس هناك ترقيع مناهج، ولا أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق مع أهل الباطل، وخاصة بعد أن وضح عداؤهم للدين وكل ما يرتبط به.

      فإذا أردنا مقاومة الباطل والمحافظة على الهويَّة واستعادة مجدنا وشخصيتنا التي افتقدناها، فما علينا إلا أن نثبت على الطريق الذي سار عليه خير الخلق[، ونثبت على الحق كما ثبت الرجال من قبلنا، ويومها يفرح المؤمنين بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم: {وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم: 6).

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك