التميز البحثي مفهومه وأسبابه ومعاييره
التميّز: مصطلح عام حادث لم يتناوله السابقون بالتعريف، معناه اللغوي الانفراد، وسواء كان الانفراد فيما يمدح أم فيما يذم، ويأتي في أكثر النصوص الشرعية فيما يذم، مع أن غالب استعمال القرآن لهذه المفردة جاء في سياق الذم، فقال -تعالى-: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} (يس:59)، وقال: {تكاد تميز من الغيظ} (الملك:8)، لكن اللغة واسعة وقادرة على استيعاب المعاني الجديدة؛ فهي لغة حية تستغرق المصطلح الجديد.
أما في الاصطلاح: فنعني بالتميّز البحثي: السبق والإتقان في البحث العملي، بإخراج شيء جدید مبتكر ذي جودة واتقان.
أسباب التميّز البحثي
من أهم تلك الأسباب التي وصل إلى السبق في البحث العلمي سواء كان البحث رسالة دينية، أم بحثا للتغطية، أم بحثا ينشر بأي وسيلة من وسائل النشر:
١- التخطيط السليم للبحث، وهو من أهم الأمور التي تكون بمثابة المفاتيح للتميز، فإذا لم يضع الباحث المحطة الصحيحة للبحث؛ فلا يمكن أن يتمير مهما بذل الباحث من جهد، وجمع المادة العلمية، وحشا فيها من الكلام، لكنه سيبقى متخلفا عما يشبهه من المرحلة. وأصبح وضع الخطط علما يدرس في الجامعات، في مادة مناهج البحث، والتخطيط العام نظريا وعلميا.
2- اتخاذ المنهج المناسب للبحث: فمناهج البحث متعددة، وكل تخصص يحتاج إلى منهج يخصه، فمناهج البحث تشترك مع بعضها في قضايا، لكن كل تخصص له ما ينفرد به عن الآخر. وهذا فيه تقصير شديد عندنا والكتب المؤلفة فيه قليلة ونادرة؛ لذلك نحن بحاجة إلى توثيق هذا الجانب، وأساتذة الدراسات العليا عليهم عبء كبير في أن يجمعوا بين مناهج البحث العامة الكبرى التي يشترك فيها كل الباحثين حتى الباحثين التجريبيين في معاملهم يشتركون فيها وبين مناهج البحث الخاصة بكل تخصص.
وهذه تحتاج إلى عناية كبيرة، وكل بحثٍ أحيانا قد يحتاج إلى نوع من المناهج؛ فالبحث الذي يحتاج مثلا إلى جمع أغراض ما غير البحث الذي يحتاج إلى استقراء توصيف له، ثم يستخدم هذه المعلومات، على عكس الذي يريد أن يستنتج من النصوص مباشرة، فهذا يحتاج إلى المنهج الاستنباطي.
وكل هذه المناهج -حقيقة - تعرض لها علم شرعي كبير هو علم أصول الفقه، فهو أصلح مناهج البحث عند علماء المسلمين، وكل هذه في مناح كبيرة، ولكنها ما زالت في حاجة إلى زيادة شرح وإيضاح في أثر هذا العلم في منهجية البحث العلمي، وحينما نلقي نظرة على الباحثين الذين بحثوا في علم الحديث وفي علم العقائد وفي علم التفسير -وفي غيرها- نجد الفرق بين من لهم صلة وثيقة بعلم أصول الفقه، أو أخذوا منه ما يحتاجون، ومن هم منصرفون عنه في مناقشة القضايا، وحتى في طريقة العرض فليس من المناسب أن تبدأ بالتسليم ثم تعود بالمنهج، فعليك أن تبدأ أولا بالمنهج وبالدليل، هل صح أم لا؟ هل صح الحديث؟ أولا تبدأ بصحة الحديث إذا ما صح اقدح في صحته إذا استطعت.
٣- التمكن من أدوات البحث العلمي وأساليبه: وهذا يأتي في مقدمته الإحاطة بالقواعد المهمة في أصول الفقه، والإحاطة بأدبيات التخصص العلمي التي تنتمي إليه، فلكل منها أدبيات وأشياء متفق عليها عند أهل العلم ينبغي أن تكون منطلقا إليه.
٤- التفرغ للبحث: فالذي يتجه إلى البحث العلمي ويهتم به ليس كمن يأخذه على فراغه؛ فهذا لا يمكن أن يكون بحثه متميزا في الغالب.
5- التحرر من وطأة التقليد المذهبي: فالتقليد أغلال قيد الإنسان، فلا ينبغي أن يكون مقلدا أعمى، فهذا يضر بالإبداع في البحث العملي، لكن في الوقت نفسه ينبغي أن يحذر الباحث من الجرأة الزائدة المخالفة للمذهب أو المخالفة للجمهور، فلا ينتقل من التقليد إلى الابتداع، فيأتي بما لم يسبق إليه، فيخالف قواعد ونصوصا كثيرة من الشريعة، وهذا أمر جد خطير، فالتوازن في هذا الجانب مطلوب مرغوب فيه، فلا استسلام للتقليد، ولا جرأة على الإسراع في الحكم دون تعمق وبحث.
6- توفير الدعم المادي والمعنوي للباحث، وهذه قضية مهمة جدا لإنتاج أبحاث متميزة وهي متوفرة لدينا ولله الحمد.
7- وأهم هذه الأسباب التي من حققها فسيكون له شأن -إن شاء الله- في التميّز - هو توفيق الله -عز وجل- وتسديده ومعونته، وهذا يرجع إلى إخلاص النية وبذل الجهد، مثلما قال الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى
فأول ما يجني عليه اجتهاده
مجالات يمكن التميّز فيها:
1- مجال التقعيد أو التقنين الفقهي، وهو مجال ما زال بحاجة إلى مزيد بحث، والدكتور الروكي له بحث مميّز في ذلك.
2- مجال القضايا المعاصرة، وهو مجال متجدد يمكن إخراج أبحاث مميّزة فيه.
3- مجال إعادة صياغة الفقه كاملا صياغة معاصرة، وإذا استعرضنا التاريخ الاسلامی نجد أن أهل كل عصر ألفوا لعصورهم، لكن بعد القرن الحادي عشر تقريبا لم يؤلف أحد في الفقه كله إلا نادرا، ككتاب الفقه الإسلامي وأدلته، للشيخ وهبة الزحيلي فقد استعرض الفقه من أوله إلى آخره تقريبا.
فإعادة صياغة الفقه الإسلامي كاملا بأسلوب معاصر، باستبعاد بعض الأدلة التي كانوا يعتمدون عليها في بعض المسائل واحلال الأدلة الجديدة بدلا عنها، كدليل القافة في مسألة اشتباه النسب مثلا فكان العلماء يقولون نلجأ إلى القافة الذين يعرفون النسب بالشبه بين الابن وابيه، واليوم خرج لنا دليل جديد وهو معرفة النسب بالحمض النووي، وهو أقوى في الدلالة من القافة، كذلك استبعاد العبارات الصعبة والأمثلة القديمة.
4 - مجال الفقه الاجتماعي العملي: أي ما يمس حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فقليل من العلماء السابقين من كتب فيها، وهو مجال خصب من المجالات التي يمكن الإبداع فيها.
معايير البحث المتميزة
1- معيار الإضافة العلمية على التخصص: لكن ما المراد بالإضافة؟، ليس المراد هو أن يكون البحث جديدا من أوله إلى آخره، فهذا لا يوجد أبدا في العلوم الشرعية، فالإضافة لابد أن يكون لها من إرث تتكئ عليه حتى تخرج، فهي قضية بسيطة بالنسبة للعلم بأكمله؛ ولذا قد تكون الإضافة بتصحيح قول منسوب لإمام نسبة غير صحيحة، وقد تكون بإضافة دليل جديد للمسألة لم يذكره الفقهاء من قبل، وقد تكون بإضافة أمثلة واقعية. وقد تكون بتحرير محل نزاع كان ملتبسا، وقد تكون بالتجديد في الأسلوب والتجديد في طرائق عرض المناقشة، كما قد تكون بالاستفادة من معطيات العصر، فالإضافة لابد أن يكون لها من إرث تتكئ عليه حتى تخرج، فهي قضية بسيطة بالنسبة للعلم بأكمله.
2- معيار التجديد في الاستدلال والمناقشة لأقوال مغمورة.
٣- فهم نصوص الشرع لكونها صالحة لكل زمان ومكان؛ فينبغي أن نتوسع في فهم القرآن والسنة.
٤- مدى قدرة الباحث على الربط بين الماضي والحاضر، والجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهذا لابد من إعطاء حقه للحكم بتميّز الباحث.
5- فتح الطالب الباب لمزيد من الدراسات لمن بعده، فهذا يعدّ فتحا كبيرا، فحينما يشرع في مشروع للدراسات العليا، ثم يأتي من بعده وينحو منحاه فيستلهمون منه أبحاثهم ويؤلفون على غراره. فهذا فتح كبير، وتمیّز.
6- مساهمة الطالب في حل مشكلات عالمية في التخصص، أو مشكلات اجتماعية تمس واقعه المعاصر، مع دراسة إمكانية تطبيقها، فهذا معیار مهم يجب أن يعطى حقه كلا في تخصصه.
أمثلة للتميّز البحثية
ومن أمثلة التميّز عند العلماء: الرسالة للشافعي، ومن علماء السلف المتقنين في هذا الباب إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، فكان - رحمه الله - مجددا ومتميّزا في بحثه في (غياب الأمم في التياث الظلم) فقد عالج قضايا أبعد مما كنا نظن أن أهل ذلك العصر يصلون إليه، كذلك القرافي في (الفروق)، الشاطبي في (الموافقات)، ابن عاشور في (مقاصد الشريعة).
لاتوجد تعليقات