رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 19 ديسمبر، 2011 0 تعليق

الأربعون الوقفية (11)

 

 جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

      والحديث الحادي عشر فيه بشرى للعاملين في نشر ثقافة الوقف، فكلما وقف واقف، وكلما أسهم مسلم في الوقف، كان للداعي له والدال عليه الأجر المستمر ما دام الوقف جارياً.

الحديث الحادي عشر

الوقف إحياء سنة

      عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المُزني، حدثني أبي عن جدي؛ أن رسول الله [ قال: «من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس، كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة فعمل بها، كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئا»(1).

      الحديث بوب له ابن ماجه باباً أسماه: «باب من أحيا سنة قد أميتت»، قال السندي في شرح سنن ابن ماجه: ‏«قيل المراد بالسنة ما وضعه رسول الله [ من الأحكام وهي قد تكون فرضا كزكاة الفطر وغير فرض كصلاة العيد وصلاة الجماعة وقراءة القرآن من غير الصلاة وتحصيل العلم ونحو ذلك، وإحياؤها أن يعمل بها ويحرض الناس ويحثهم على إقامتها”(2).

      وفي الحديث بيان أن من كان أصلاً في عمل من أعمال البر والخير والهدى، وتبعه عليه غيره، كان له أجر هذا العمل وثوابه، وإحياء سنة الوقف الذي أرشد النبي محمد [ صحابته إليه، وحثهم عليه، وفعله بنفسه حين أوقف أراضي مخيريق، إحياء لسنة النبي [، وإحياء لأحكامه وفقهه فضائله ومقاصده.

      ونشر ثقافة الوقف دعوة إلى الهدى، قال [: «من دعَا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا يَنقص ذلك مِن أجورهم شيئا «(3). وقال [: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» (4).

      قال النووي في شرحه للحديث: «فيه فضيلة الدلالة على الخير والتنبيه عليه والمساعدة لفاعله، والمراد بمثل أجر فاعله، أن له ثواباً بذلك الفعل كما أن لفاعله ثواباً، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء»(5).

      قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر، له مثل من تبعه من الأجر والوزر، كما قال النبي [: “من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً”؛ وذلك لاشتراكهم في الحقيقة؛ وأن حكم الشيء حكم نظيره، وشبه الشيء منجذب إليه، فإذا كان هذان داعيين قويين فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران؟ وذلك أن كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم، ومعاداتهم لمخالفيهم” (6).

      وسنة الوقف النبوية الشريفة هي من أعظم نعم الله عز وجل على أمتنا؛ إذ لم تترك مجالا من مجالات الحياة إلا طرقته، ووفرت من الموارد ما يكفل استمرارية الصرف وفق شروط الواقفين، مما وفر المناخ الملائم لنشأة الحضارة الإسلامية التي أشرقت على العالم قرونا عديدة، ومهمة إحياء سنة الوقف مثلت أحد الأهداف الاستراتيجية للأمانة العامة للأوقاف منذ نشأتها(7).

      وإحياء سنة الوقف ونشرها وترسيخها في الأمة هو استئناف لمسيرة الحضارة الإسلامية المجيدة ودفع للأمة إلى منزلة خير أمة أخرجت للناس، فقد جعل ديننا العظيم الرحمة الاجتماعية والتعاون الإنساني والحرص على نفع الآخرين أساساً يبنى عليه تقويم الإنسان وجزاؤه.

      فالجوانب الخيرية والتطوعية – إن فعلت لوجه الله تعالى – فهي عبادة, وإن أخلصت النية، فتكون كل حركة وكل كلمة وكل جهد وكل تفكير وكل سلوك في دائرة ذلك المقصد تجارة مع الله تعالى(8).

      وثقافة الوقف ثقافة غائبة، ولا سيما لدى الأجيال الناشئة والشباب، وهذا أدى إلى ضعف الأوقاف، وتباطؤ المساهمة بالجديد منها، والتطوع في مؤسساتها، فانحسر - بهذا الغياب- دور الأوقاف في الوقت الحالي بشكل ملحوظ.

      فإذا أردنا المآل الأفضل للوقف الإسلامي وقطاعه المتنوع في أوطاننا، فلا بد أن نحيي سنته الغائبة بين الأجيال، وتعريفهم بأحكامه ومقاصده وأبعاده وخصائصه ومساهماته الحضارية، وتهيئتهم وتأهيلهم ودفعهم للتطوع بمؤسساته، والبذل من أجل إيجاد أوقاف تخدم الجيل الشبابي، وترعى اهتماماته وتطلعاته وآماله وتوجهه التوجيه السوي لما يصلح له دنياه ولآخرته.

      والخطوة الأولى لإحياء سنة الوقف هي نشر ثقافته، ودفع عامة الناس للإسهام في مشاريعه، وتوجيه المختصين بتقديم مساهماتهم الفكرية والعلمية والعملية في إيجاد أوقاف عصرية، تواكب التغيرات والمتطلبات في المجتمعات العربية والإسلامية والعالمية.

      ويتطلب ذلك تبسيط ثقافة الوقف ليستوعبها الجميع، وجعلها على مراحل ومستويات لكي يدركها العامة، فالخطاب المتخصص والأكاديمي له منابره ودراساته، ما نريده أن تكون ثقافة الوقف حاضرة مستوعبة دافعة للعمل لكسب الأجر وصلاح البلاد والعباد.

      فلا يتحقق ما نصبو إليه من إحياء سنة الوقف، ورعاية المهمل منه، ونمائه إلا بزيادة الفقه والمعارف حول الوقف، وهذا يتطلب - وبشكل عاجل – وضع برامج مدروسة بدقة للتوعية بأهمية الوقف، يتنوع بها الخطاب والأسلوب والأدوات والرسائل والوسائل، ثم مراقبة تجاوب وتقبل وتفاعل الجمهور العام معها، وهل أوجدت وأحيت فيهم المبادرة والرغبة في الإسهام والمشاركة لإعادة الوقف لما كان عليه في العهود الماضية.

      ثقافة الوقف لا بد أن تعم ويدرك الناس أهميتها ونتاجها، وهذا يتطلب أن تكون المؤسسات الوقفية على قدر المسؤولية، وأن تستوعب طاقات الشباب المتطوعة، وأن تدربهم وتأهلهم ليحسنوا العمل والإدارة في تلك المؤسسات، ثقافة منطلقها أن ما شرع في الإسلام يصلح الدين والدنيا، ويقود البشرية إلى ما يحقق لهم السعادة والأمان والكرامة والعزة في كل زمان ومكان، وثقافة بما حقق الوقف من استقامة حياة الناس وتوجيههم إلى ربهم وجهة صحيحة.

      ونحن بحاجة إلى إحياء سنة الوقف من خلال التعريف بدوره التنموي وبتاريخه وفقهه ومنجزاته، التي شهدتها الحضارة الإسلامية حتى تاريخها القريب، ولا يتأتى ذلك إلا بتجديد الخطاب المستندإعلى أصول في نهجنا لإحياء سنة الوقف ونشر ثقافته التي ألخصها بالآتي:

1- الآيات الكريمة في كتاب الله تعالى، التي تحث على الصدقة بالعموم، ويدخل ضمنها الوقف.

2- الأحاديث النبوية في فعل النبي [ ووقف الأوقاف وحث المسلمين على الوقف والصدقة الجارية.

3- فعل الصحابة وأوقافهم الكثيرة، وتوثيقهم للوقف، وإشهادهم عليه، وحرصهم على رعايته ونظارته في حياتهم، وتحديد من يتولاه من بعدهم، والمجالات التي أوقفوا فيها.

4- كتب الفقه التي خصصت لأحكام الوقف ومشروعيته باباً مستقلاً، وأخرجت له العديد من المسائل.

5- أقوال المتقدمين في الوقف، من فقه وأحكام وخصائص وسمات ومجالات، وأكثره نفعاً.

6- دور الوقف في بناء الحضارة الإسلامية في العهود، وحماية المسلمين مع انتقاء بعض العبارات المناسبة.

7- روائع ونوادر أوقاف المسلمين، وكيف خلدها ومجدها التاريخ.

8- مقومات نجاح المؤسسات الوقفية التي تملكها الأمة حصراً، عن غيرها من الأمم.

9- إيضاح دور الغرب في رعاية الوقف وأصوله، وسن التشريعات لحمايته، وكيف أنه استفاد كثيراً من نظام الوقف في الإسلام.

10- حاجة المجتمعات المعاصرة لأوقاف جديدة (عصرية) تفي بحاجات المجتمع، وتنشيء مجالات جديدة للوقف والرعاية.

      ونستخلص من الحديث فوائد منها: إن إحياء سنة الوقف إحياء لسنة من سنن الإسلام، وكل من أوقف ولو سَهمًا واحدًا يرجو برَّه وذخره عند الله فقد ساهم في إحياء سنته،

      وفيه فضيلة الداعي إلى سبل الخير في الأمة وإحياء السنة التي أميت منها الكثير، وأنه على قدر الفضل العظيم الذي يحصل في نشر السنة، فإن وزر ناشر الشر والداعي إلى الضلال عظيم.

      وفيه بشرى للعاملين في نشر ثقافة الوقف، فكلما وقف واقف، وكلما ساهم مسلم في الوقف، كان للداعي لها والدال عليها الأجر المستمر مادام الوقف جارياً، وأمتنا أمة عطاء، فما علينا إلا أن نحسن مخاطبة العقول، ومس الإحساس، وإدراك الحاجة.

      فما أحوجنا اليوم إلى إحياء الوقف كسنة عملية حققت بتطبيقاتها ومخرجاتها للأمة التقدم والعدالة، لتكون سلوكاً يعم الأمة بأسرها، وإسهاماً في دعم حركة المجتمع والدولة باتجاه التنمية ومكافحة العوز والجهل والمرض، ودعم مؤسسات التعليم والبحث العلمي والتقني بكل مجالاته.

      لا شك أن إحياء سنة الوقف الحميدة بين الناس مسؤولية جماعية، كل حسب إمكاناته وطاقته من دعاة وقضاة ومؤسسات خيرية ووقفية، ووسائل إعلام مختلفة، ومسؤولية أيضاً القطاع الحكومي والتجاري كشريك في إيصال رسالة الوقف والمساهمة في مؤسساته ودعم مشاريعه وإعلامه.

      ولإحياء سنة الوقف بين الناس، لا بد أن تحييها بنفسك أولاً، ثم تنقلها إلى غيرك، فنسأل الله تعالى أن يكتب لنا الأجر في إحياء سنة قد أميتت في العديد من الأوطان والبلدان، ومن أحياها فله الأجر المستمر.

 

(الهوامش)

1 - صحيح سنن ابن ماجه، للألباني، باب من أحيا سنة قد أُميتت. برقم 173.

2- انظر: حاشية السندي على ابن ماجه، لأبي الحسن الحنفي المشهور بالسندي.

3 - أخرجه مسلم، برقم (2674).

4 - أخرجه مسلم، برقم ( 1893).

5 - المنهاج في شرح صحيح مسلم، طبعة بيت الأفكار الدولية، ص 1214.

6 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمــــد بن تيمية ( 28/150).

7 - د. عبد المحسن الخرافي، أمين عام الأمانة العامة، كلمته التي ألقاها ممثلا دولة الكويت في افتتاح فعاليات منتدى قضايا الوقف الفقهية الخامس، الذي أقيم في العاصمة التركية في الفترة من 13-15 مايو 2011م   = 10- 12 جمادى الآخر 1432. انظر: صحيفة القبس 15 مايو 2011م.

8 - للاستزادة: انظر: السلوك الاجتماعي في الإسلام، الشيخ حسن أيوب، ص 16. دار السلام، مصر، ط3(1427هـ-2006م). 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك