الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – من قصة موسى وأخيه هارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام
لا نزال مع قوله -تعالى-: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (سورة الأعراف:142)
فمن المسائل المستفادة من هذه الآية الكريمة (مشروعية الاستنابة) في قضاء المصالح الدينية والدنيوية، قال القرطبي: «المعنى: وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها لأخيه هارون: كن خليفتي؛ فدل على النيابة».
أولاً: تعريف النيابة:
أصل النيابة في اللغة: الرجوع والاعتياد، ومنه: ناب إلى الله وأناب إليه: الرجوع إليه بالتوبة ولزوم طاعته وفي التنزيل: {فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب}، وقوله -سبحانه-: {وأنيبوا إلى ربكم}، وفي الحديث: «وإليك أنبت».
ومن معاني النيابة: إقامة الشخص مقام غيره قال ابن منظور: «ناب عني فلان ينوب نوبا ومنابا أي قام مقامي».
أما تعريف النيابة في الاصطلاح: فقد عرفها الفقهاء بأنها: قيام شخص عن غيره بفعل أمر تجوز فيه النيابة.
وتتنوع النيابة عن الآخَر بحسب مصدرها إلى نوعين؛ نيابة إرادية، ونيابة غير إرادية.
القسم الأول: النيابة الإرادية:
هي النيابة التي تستند إلى إقامة شخص بإرادته غيره مقامه في تصرف ما، مثل: عقد الوكالة ونحوها من العقود التي تتضمن معنى الوكالة.
القسم الثاني: النيابة غير الإرادية:
وهي النيابة التي لا دخل فيها لإرادة الإنسان، بل تفرض عليه لمصلحة الأصيل أحيانا، ولمصلحة غيره أحيانا أخرى، وقد تكون النيابة دون تدخل أحد كما في الولاية، وقد تكون عن طريق القضاء، وهذا القسم أنواع، منها:
1- نيابة الولي:
الولي يشمل الأب والجد ونحوهما من الأولياء بحسب الترتيب الشرعي، وولاية كل منهما أصلية، أي لم تستمد من شخص آخر بل من الشارع مباشرة، وهي ذاتية لا يصح أن يعفي نفسه منه إلا لأسباب معينة يرجع تقديرها إلى القاضي.
2- نيابة الوصي المختار:
خَوَّلَ الشرع الولي أن يختار وصيا من بعده يقوم برعاية الصغير؛ لأنه أدرى بمصلحته وأشفق عليه من غيره، وتعد تصرفات الوصي المختار نافذة أيضا في حق الموصى عليه إذا كانت وفق قواعد الوصاية، وتعد النيابة هنا شرعية؛ لأن الشارع هو الذي نظمها وأعطى الوصي تلك الصلاحية.
3- النيابة القضائية:
وتثبت للقاضي أو من ينيبه؛ إذ من حق القاضي أن ينوب عن الصغير ونحوه إذا لم يكن له ولي ولا وصي مختار، فهو ولي من لا ولي له لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «السلطان ولي من لا ولي له «أخرجه ابن ماجه.
4- نيابة الفضولي:
الفضولي هو من يتصرف في حق غيره بغير إذن شرعي، وتصرفه عند الجمهور موقوف على إجازة من له الحق، فإن أجازه عدّ تصرفه تصرف الوكيل، ومن ثم يأخذ أحكام الوكالة وهي (نيابة إرادية)، ولكن قد تكون أعمال الفضولي ملزمة للأصيل فتدخل في النيابة غير الإرادية لأنها تفرض عليه، كما لو أدى عن غيره واجبا بغير إذنه ولم يكن متبرعا، كما لو أنفق على زوجة الأصيل عند امتناعه أو غيبته أو أنفق على اللقطة أو أدى دينا عنه فإنه يرجع على الأصيل.
وكذلك تصرف الرفقة في السفر إذا مات أحدهم فباعوا متاعه ليجهزوه بثمنه، ويردوا الباقي للورثة فإن التصرف يلزم الورثة ولا يستطيعون رده.
وفي هذه الآية الكريمة وكل موسى -عليه السلام- هارون -عليه السلام- في القيام على بني إسرائيل، مما يدل على مشروعية الوكالة، قال ابن عطية: «قوله: {واخْلُفْنِي} معناه: كن خليفتي، وهذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو موته».
فالوكالة من أنواع النيابة الإرادية كما تقدم، وهي كما عرفها الفقهاء: بأنها تفويض شخص ما له فعله مما يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته.
والوكالة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب فقول الله -تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (سورة التوبة:60)
قال ابن قدامة: «فجوز العمل عليها، وذلك بحكم النيابة عن المستحقين».
وأيضا قوله -تعالى-: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} (سورة الكهف:19) قال القرطبي: «في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها».
وأما السنة المطهرة: فعن عروة بن أبي الجعد البارقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا ليشتري به له شاة، فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه. أخرجه البخاري.
وعن جابر قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر. فقال: «ائت وكيلي، فخذ منه خمسة عشر وسقا، فإن ابتغى منك آية، فضع يدك على ترقوته». أخرجه أبو داود.
وفي السنة المطهرة أمثلة كثيرة على توكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لكثير من الصحابة في أمور كثيرة، مثل توكيل علي بن أبي طالب في ذبح الهدي، وكذلك توكيل ابن أم مكتوم في الإمامة، وأيضاً وكَّل أبا هريرة على صدقة رمضان، وجاء في الصحيحين أنه قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها»، فوكَّل أنيساً في تسجيل الاعتراف وفي إقامة الحد.
وكذلك وكَّل - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع في نكاح ميمونة، وكذلك ورد أنه وكَّل عمرو بن أمية الضمري -رضي الله عنهم- جميعاً في نكاح أم حبيبة.
وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك؛ فإنه لا يمكن كل واحد فعل ما يحتاج إليه، فدعت الحاجة إليها، فأجاز له الشرع أن يستنيب غيره في ذلك، فإذا وكل شخص غيره وكالة صحيحة ترتب على ذلك ثبوت ولاية التصرف للوكيل فيما وكل فيه، فيحتاج إلى بيان ما يملكه الوكيل من التصرف بموجب التوكيل بعد صحته وما لا يملكه.
لاتوجد تعليقات