رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 14 ديسمبر، 2020 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – الأحكام المستفادة من خلق الإنسان من نفس واحدة


قال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (سورة الأعراف: 189)، يذكر الله -تعالى- نعمته على عباده؛ حيث أنشأهم من نفس واحدة، والمقصود آدم -عليه السلام- وخلق زوجه حواء -عليها السلام- منه، ثم جاءت ذريتهما وفق ما سنه الله -تعالى- لتكاثر البشر عن طريق الاتصال بين الرجل والمرأة وما يتبع ذلك من حمل وولادة، وقد امتن الله -سبحانه- على عباده بهذا الأمر في مواضع كثيرة منها قوله -سبحانه-: {واللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (سورة النحل: 72).

     قوله -تعالى-: {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} قال الشيخ ابن سعدي: «وذلك في ابتداء الحمل، لا تحس به الأنثى، ولا يثقلها. {فَلَمَّا} استمرت به و{أَثْقَلَتْ} به حين كبر في بطنها، فحينئذ صار في قلوبهما الشفقة على الولد، وعلى خروجه حيا، صحيحا، سالما لا آفة فيه كذلك فـ {دعوا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا} ولدا {صَالِحًا} أي: صالح الخلقة تامها، لا نقص فيه {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}».

أثر الحمل في تصرفات الحامل

     فمن المسائل الفقهية المستفادة من الآية مسألة: أثر الحمل في تصرفات الحامل: قال القرطبي: «دلت الآية على أن الحمل مرض من الأمراض. روى ابن القاسم ويحيى عن مالك قال: «أول الحمل يسر وسرور، وآخره مرض من الأمراض». وهذا الذي قاله مالك: «إنه مرض من الأمراض» يعطيه ظاهر قوله: {دعوا الله ربهما}، وهذه الحالة مشاهدة في الحمال، ولأجل عظم الأمر وشدة الخطب جعل موتها شهادة، كما ورد في الحديث».

من الشهيد من أمتي؟

     يشير -رحمه الله- إلى حديث راشد بن حبيش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عبادة بن الصامت في مرضه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتعلمون من الشهيد من أمتي؟ وذكر منهم: «والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنة» والسرر: ما تقطعه القابلة من المولود، والحديث أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح.

وقد اختلف الفقهاء في تأثير الحمل في تبرعات الحامل المالية، وقبل ذكر ذلك لابد من بيان أمرين:

- الأمر الأول: تأثير الحمل على الأهلية: والأهلية: صفة يقدرها الشارع في الشخص تجعله صالحا لأن تثبت له الحقوق، وتثبت عليه الواجبات، وتصح منه التصرفات، وهي نوعان:

النوع الأول: أهلية الوجوب

وهي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له وعليه شرعاَ. وتثبت بمجرد ثبوت الحياة، فلا علاقة لها بالسن ولا العقل أو الرشد، بل كل إنسان حي يتمتع بأهلية الوجوب.

النوع الثاني: أهلية الأداء

     وهي صلاحية الشخص لصدور التصرفات منه على وجه يعتد به شرعا، وهذا يعني أن أهلية الأداء تجعل الشخص أهلا للمعاملة بين الناس، ومناطها العقل، فتثبت للبالغ العاقل أهلية أداء كاملة، وتثبت للصبي المميز أهلية أداء ناقصة، والحامل العاقلة لها أهلية كاملة؛ لأنها تتمتع بالحياة، ولم يعرض لها ما ينقص أهليتها أو يزيلها.

الأمر الثانيتأثير مرض الموت في التبرعات

- مرض الموت: هو المرض الذي يقعد من أصيب به عن القيام بمصالحه، ويكون مخوفا أي: يغلب الموت منه، ويموت مريض مرض الموت به. فلو تعافى الإنسان منه أو ابتلي به ولم يمت فليس مرض موت.

وألحق الفقهاء بمرض الموت كل شخص أشرف على مخاطر جسيمة يغلب فيها الهلاك، كالمحكوم عليه بالإعدام، والمشرف على الغرق، والمرأة الحامل قريبة الولادة وغيرهم.

ومرض الموت يؤثر في صحة التبرعات، فعند عامة الفقهاء يجوز الحجر على مريض مرض الموت في تبرعاته لحق الورثة بما زاد عن ثلث ماله، والتبرعات تشمل الهبة والوصية والوقف والإبراء من الدين ونحوها.

     ودليلهم حديث عمران بن حصين «أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته، ولم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له قولا شديدا، ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة» أخرجه مسلم فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرعه بما زاد عن الثلث.

وقد اتفق الفقهاء على أن الحمل قبل مرور ستة أشهر لا يؤثر في الأهلية، ولا تبرعات الحامل؛ لعدم وجود خطر الموت عليها، وأما بعد مرور ستة أشهر على الحمل فاختلف الفقهاء في منع تبرع الحامل فيما زاد على الثلث على مذاهب:

المذهب الأول: عطيتها كعطية الصحيح

وقال به الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ: عَطِيَّتُهَا كَعَطِيَّةِ الصَّحِيحِ أي: لا يحجر على الحامل مطلقا، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ سَلَامَتُهَا، فلا تقيد تبرعاتها بغير موجب.

المذهب الثاني:الحمل لايؤثر في التبرعات

     وقال به النَّخَعِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وهو قول الجمهور أن الحامل بعد ستة أشهر إذا لم يأتها الطلق -وهو وجع الولادة- فلا يؤثر الحمل في التبرعات، أما في حالة الطلق بعد ستة أشهر فتعد الحامل كمريض مرض الموت فيحجر عليها فيما زاد على الثلث.

     ودليلهم: كما قال ابن قدامة: «أَنَّهَا إذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ، كَانَ مَخُوفًا؛ لِأَنَّهُ أَلَمٌ شَدِيدٌ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، فَأَشْبَهَتْ صَاحِبَ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ الْمَخُوفَةِ. وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا أَلَمَ بِهَا، وَاحْتِمَالُ وُجُودِهِ خِلَافُ الْعَادَةِ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِاحْتِمَالِهِ الْبَعِيدِ مَعَ عَدَمِهِ، كَالصَّحِيحِ». ومرادهم بأن الحمل عادة والغالب فيه السلامة.

المذهب الثالث: تبرع الحامل من الثلث

وقال به سعيد بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ وهو مذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الخرقي إلى أن تبرع الحامل بعد ستة أشهر ولو لم يضربها الطلق يكون من الثلث فقط ويحجر عليها فيما زاد على الثلث.

ودليلهم: أَنَّ سِتَّةَ الْأَشْهُرِ وَقْتٌ يُمْكِنُ الْوِلَادَةُ فِيهِ، وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ. فتقام المظنة مقام السبب الفعلي.

قال القرطبي مستدلا بالآية المذكورة: وإذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حال المريض في أفعاله، ولا خلاف بين علماء الأمصار أن فعل المريض فيما يهب ويحابي في ثلثه.

      ونوقش هذا الاستدلال: بأن احتمال الموت وارد لكنه قليل، ومثل هذا الاحتمال القليل لا يسوغ الحجر على المرأة البالغة العاقلة الحرة الرشيدة، قَالَ الْمَازِرِيُّ وهو من فقهاء المالكية في تعقب دليل المالكية: «مُسْتَنَدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَوَائِدُ، وَالْهَلَاكُ مِنْ الْحَمْلِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، لَوْ بَحَثْتَ عَنْ مَدِينَةٍ مِنْ الْمَدَائِنِ لَوَجَدْتَ أُمَّهَاتِ أَهْلِهَا إمَّا أَحْيَاءً وَإِمَّا أَمْوَاتًا مِنْ غَيْرِ نِفَاسٍ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ لَمْ تَخْرُجْ بِهِ الْمَرْأَةُ إلَى أَحْكَامِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ وَهَذَا مُخْتَارُنَا»، وبهذا يظهر رجحان مذهب الجمهور، والله أعلم.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك