رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: رائد الحزيمي 16 سبتمبر، 2019 0 تعليق

«احفظ الله يحفظك» مظــاهـر رحمة الله عـزوجـل بعبــاده المؤمنين

 

محبّة الله -عزّ وجلّ- للعبد غاية طلب العِباد، ومُنية قلوبهم، وشوق أرواحهم؛ فمحبّة الله -تعالى- لعباده تعني أن تحلّ عليهم رحمته في الدُّنيا والآخرة، فينالون في الدّنيا حياةً طيّبةً، ويفوزون في الآخرة بدخول الجنة؛ لذا يسعى المؤمنون إلى نيل هذه المراتب العُليا والمنزلة الرفيعة؛ بتحرّي مواطن تلك المنحة الإلهيّة العظيمة والوصول إليها، ويدرك العارفون بالله -سبحانه وتعالى- أنّ هذا المقام لا يتحصّله العبد بالأماني، وإنّما بمجاهدة النفس وترك نزواتها، ومواجهة مداخل الشيطان ووسوسته، والحرمان من هذه العطيّة الربانيّة هو حرمان من الحياة الآمنة الطيّبة في الدنيا والآخرة، وبما أنّ الإسلام دين المحبّة، فقد دعانا إلى السّعي في سبيل تحصيل هذه المحبّة.

فرح الله بتوبة العبد

     عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:  «للهُ أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن، من رجل في أرض دَويّة مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فاللهُ أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده» رواه مسلم، وفي حديث النعمان بن بشير زيادة: «ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح» رواه مسلم .

المبادرة بالتوبة

     إن الغاية من المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث دعوة المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة، حتى يطهّروا أنفسهم من المعاصي والذنوب، كما قال الحقّ -سبحانه وتعالى- في محكم التنزيل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31)، وقال -تعالى-: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة: 74)، وقد بيّن - صلى الله عليه وسلم - أن ربنا عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأن أبواب التوبة مفتوحة، لا تُغلق إلى قرب قيام الساعة، وما أكثر الآيات والأحاديث التي جاءت تبيّن ذلك وتفصّله.

الرحمة الإلهيّة

     وإذا كان المثل الذي بين أيدينا يعطينا لمحةً عن الرحمة الإلهيّة، فهو يوقفنا كذلك على صفة من صفاته -سبحانه-، المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن»، وذلك إثباتُ أن الله -تعالى- يفرح فرحاً يليق بجلاله وكماله، ولا يشبه فرح المخلوقين، كما يشير الحديث إلى أنّ الله -سبحانه وتعالى -لا يحاسب العبد على الألفاظ والأقوال التي تصدر منه دون قصد، فالرّجل قال من شدّة الفرح:  «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» فظاهر العبارة كفرٌ، لكنّ العبرة بما وقر في قلبه وما أراده في نفسه.

     وعن أبي هريرة  - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى! قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ لله مائة رحمة، أنزل منها رَحمةً واحدة بين الجنِّ والإنس والبهائم والهوام، فبِها يتعاطفون، وبها يتراحَمون، وبها تعطف الوحشُ على ولدها، وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمة يَرحم بها عبادَه يوم القيامة»؛ رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لمَّا قضى الله الخلقَ كتب كتابًا، فهو عنده فوق عرشه: إنَّ رحمتي سبقَت غضبي»؛ هذا حديث متفَق عليه.

     وعن أبي هريرة قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جعل الله الرحمةَ مائة جزء؛ فأمسَك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحَم الخَلق، حتى تَرفع الفرس حافرَها عن ولدها خشية أن تُصيبه»؛ أخرجه البخاري.

أين تذهب عنِّي؟

     يورد ابن القيم -رحمه الله- عن بعض العارفين أنَّه رأى في بعض السِّكك بابًا قد فُتِح وخرج منه صبيٌّ يَستغيث ويَبكي، وأمُّه خلفه تَطرده، حتى خرج، فأغلقَت البابَ في وجهه ودخلَت، فذهب الصبيُّ غير بعيد، ثمَّ وقف مفكِّرًا، فلم يجد مأوًى غير البيت الذي أُخرِج منه، ولا مَن يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزينًا، فوجد البابَ مرتجًّا مغلقًا، فتوسَّده ووضع خدَّه على عتبة الباب، ونام، فخرجَت أمُّه، فلمَّا رأَته على تلك الحال لم تملِك أن رمَت بنفسها عليه، والتزمَته، تقبِّله وتبكي، وتقول: يا ولدي، أين تذهب عنِّي؟ مَن يُؤويك سواي؟! أين تذهب عنِّي؟ مَن يؤويك سواي؟! ألم أقل لك: لا تخالِفني، ولا تحملني بمعصيتك على خِلاف ما جُبلتُ عليه من الرَّحمة بك، والشَّفقة عليك، وإرادة الخير لك؟ ثمَّ ضمَّته إلى صدرها، ودخلَت به بيتها، فتأمَّل قولها: لا تَحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك، والشَّفقة عليك.

مغفرة الله للمذنبين

     ومن مظاهر رحمة الله بعباده، رحمته -جلَّ وعلا- بهم يوم القيامة، روى عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إنَّ الله يُدني المُؤمن فيضعُ عليه كنفه ويستُرُه، فيقولُ: أتعرفُ ذنبَ كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ فيقولُ: نعم أي رب، حتى إذا قرَّره بذُنُوبه ورأى في نفسه أنَّه هلك، قال: سترتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفرُها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأمَّا الكافرُ والمُنافقُون، فيقولُ الأشهادُ: هؤلاء الذين كذَبوا على ربِّهم، ألَا لعنةُ الله على الظَّالمين»؛ رواه البخاري.

نعم، وغَدراتك وفجراتك

     وعن عبدالرحمن بن جبير - رضي الله عنه - قال: «أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - شيخٌ كبير هرم، سقط حاجباه على عَينيه، وهو مدعم على عصًا - أي: متَّكئ على عصًا - حتى قام بين يدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوبَ كلَّها، لم يترك داجة ولا حاجة إلاَّ أتاها، لو قسمَت خطيئتُه على أهل الأرض لأوبقَتهم - لأهلكَتهم - أله من تَوبة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هل أسلمتَ؟»، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله، قال: «تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهنَّ الله لك كلهنَّ خيرات»، قال: وغدرَاتي وفَجراتي يا رسولَ الله؟ قال: «نعم، وغَدراتك وفجراتك»، فقال: الله أكبر، الله أكبر، ثمَّ ادعم على عصاه، فلم يزل يردِّد: الله أكبر، حتى توارى عن الأنظار»، صحَّحه الألباني.

مضاعفة الحسنات

     ومن رحمته -سبحانه- أن يضاعف أجر الأعمال الصالحة لعباده قال -تعالى-: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (التغابن:17) وأقل ما تضاعف به الحسنة عشرة أضعاف: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام:160) أما السيئة فلا تجزى إلا مثلها: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} (الأنعام:160)، وهذا مقتضى عدله -تبارك وتعالى.

قراءة القرآن الكريم

     ومن الأعمال التي أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها تضاعف عشرة أضعاف قراءة القرآن عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف»، وغير ذلك كالصلاة، والصوم.

الهم بالفعل

     ومن فضل الله أن المسلم الذي يهم بفعل الحسنة ولكنه لا يفعلها تكتب له حسنة تامة، وأن المسلم الذي يهم بفعل السيئة ثم تدركه مخافة الله فيتركها تكتب له حسنة تامة. عن ابن عباس -رضى الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه -عز وجل- قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة».

تبديل السيئات

     وتبلغ رحمة الله بعباده وفضله عليهم أن يبدل سيئاتهم حسنات عن أبى ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها. فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا. فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه. فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة. فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا»، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك