رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 15 أبريل، 2025 0 تعليق

محاضرات منتدى تراث الرمضاني الخامس – أعلام وقدوات أثروا في تاريخ الأمة – شيخ الإسلام ابن تيمية (2 من 2) – المحاضرة   3

  • كانت معاملة شيخ الإسلام ابن تيمية مع الخلق تقوم على السماحة المقترنة بالشجاعة في إظهار الحق والحكمة في عرضه
  • تعدّ ردود شيخ الإسلام على المخالفين نموذجًا يحتذى ومثالًا مشرفًا
  • جمع ابن تيمية بين لقبي (شيخ الإسلام) و (عالم المِلّة)  في الدعوة والبلاغ
  • نصيحتي لهذا الجيل قبل الاعتناء بالنقل عن شيخ الإسلام أن يستوعب منهج شيخ الإسلام ورأيه في المسألة فإن شيخ الإسلام يفصّل تفصيلاً عظيما وكثيرا
  • قدّم شيخ الإسلام للأمة في المجال الفقهي أمرًا عجز عنه الكثير وهو إصلاح أحكام الطلاق فغالب محاكم الدول العربية والإسلامية تأخذ بفتواه في مسائل الطلاق
  • شارك شيخ الإسلام في المناظرات العلمية وكان إمامًا في الحجة يستحضر النصوص ويقرب المعنى ويزيل الشبهة ولا ينتصر لنفسه
  • الأمة تحتاج إلى دراسة منهج شيخ الإسلام وإلى دراسة علومه وإلى الوقوف على تأصيلاته وقواعده فإنها جامعة شاملة واعية دقيقة رائعة
 

ما زلنا نستعرض محاضرة شيخ الإسلام ابن تيمية التي ألقاها الشيخ فتحي الموصلي ضمن محاضرات ملتقى تراث الرمضاني الخامس التي جاء بعنوان: أعلام وقدوات أثروا في تاريخ الأمَّة؛ حيث ذكر الشيخ الموصلي نبذة مختصرة عن سيرة شيخ الإسلام -رحمه الله- وبداياته ومنطلقاته العلمية، وذكر أنَّ حياة شيخ الإسلام تميزت بأمور ثلاثة: البناء العلمي، والولاء للشريعة بنصوص الوحي، والنظرة الشمولية العامة، ثم ذكر أصولاً مهمة في منهج شيخ الإسلام، منها أن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، وأن الشرع لا يتعارض مع القدر، ووجوب النظر إلى الشريعة بعين الكمال لا بعين النقصان، ثم سلط الضوء على تعامل شيخ الإسلام -رحمه الله- مع الواقع، واليوم نكمل ما بدأناه.

منطلقات شيخ الإسلام الدعوية في معالجة الواقع

منطلقات شيخ الإسلام في معالجة الواقع الدعوي كانت تتصف بأمور ثلاثة:
  • أولا: اتصافه بالحكمة العلمية والعملية.
  • ثانيا: جمع بين السماحة والشجاعة.
  • ثالثًا: حرصه على حراسة القرآن والسنة بالعلم والعدل لا بالعنف والجهل.

أولها: اتصافه بالحكمة العلمية والعملية

         قد يكون الداعية حكيما في علمه، لكن ليس حكيما في مجاله العملي، تجد بعض الدعاة إذا صار خطيبا أو كتب كتابا كلامه جميل ونافع ومفيد، لكن عندما يباشر الدعوة في واقعها العملي تجده رجل صدامي، حتى كأنه يخبر عن نفسه بأنه لا يصلح إلا للقلم، لا يصلح للميدان؛ ولذلك كان شيخ الإسلام -رحمه الله- في ممارسته للشريعة والأحكام، في الأمور العلمية كان حكيما، وفي الأمور العملية كذلك، حتى في قضايا الجهاد وفي جمع الناس على التصدي للتتار لما أرادوا دخول الشام، وعلى حث من كان في مصر من المسلمين في مواجهة التتار، لم يبدأ بالتأليب ومجرد إثارة الحماس بين الناس، ولا وقف ينتقد العلماء والحكام، إنما كانت عنده معالجات دقيقة عملية فقهية شرعية إيمانية في جمع الناس على إيمانهم لمواجهة الأخطار، وكان منهجا فريدا في هذا الباب.

ثانيا: جمعه بين السماحة والشجاعة

          كانت معاملته -رحمه الله- مع الخلق المخالفين والموافقين، الكفار والمسلمين، أهل السنة وأهل البدع من أهل الضلالة والمنحرفين، بالسماحة المقترنة بالشجاعة، شجاعة في إظهار الحق، سماحة في عرض الحق، شجاعة في الصدع بالحق، سماحة في عرض وبيان الحق، لهذا كان يأتي المخالف إليه وشيخ الإسلام عنده أشد الناس بغضا وكرها، وما إن يسمع طريقة شيخ الإسلام في عرض الحق حتى ينصاع إليه، بل قال بعض تلاميذه إن شيخ الإسلام في شبابه كان يمر في الطريق على يهودي، وهذا اليهودي يسأله بعض مسائل، ويعجب بجواب شيخ الإسلام وسماحته وفقهه، ولا يزال حتى أسلم هذا اليهودي، فنحن أمام عالم كان أمة في زمانه، وكان مجددا لمنهجه، ما كان كذلك إلا بحكمته العلمية والعملية، ثم بسماحته وشجاعته.

ثالثًا: حراسة القرآن والسنة بالعلم والعدل لا بالعنف والجهل

         الأمر الثالث وهو حرص شيخ الإسلام -رحمه الله- على حراسة - القرآن والسنة- بالعلم والعدل، لا بالعنف والجهل، فمن يقرأ في كتب شيخ الإسلام وينظر في أعماله العلمية الخالدة، يلحظ أنه كان مرابطا على ثغور الإسلام كأنه مقاتل مجاهد، فشيخ الإسلام هو من حراس الشريعة، حراسة واعية، جامعة، حكيمة، كانت حراسته بالعلم والعدل، حتى في رده على الفرق، رد على الخوارج، لكن بعلم وعدل، لا بالجهل والظلم، وكانت ردوده علمية عادلة في أحكامها، صادقة في أخبارها، ظاهرة في حججها. لهذا تعد ردود شيخ الإسلام على المخالفين هي الردود العلمية السلفية، هي النموذج والمثال الذي يُقتدى به، وما سوى ذلك فهي على مراتب، فقد ترى الرد فيه علم لكن ما فيه عدل، قد ترى رفقا وعدلا لكن لا يتضمن الرد علما.

قضية مهمة

        وهنا أشير إلى قضية مهمة بأن الفِرق في زمان شيخ الإسلام وصلت إلى أعلى مراحل الغلو، وهذا يجب أن يُعلم، الصوفية في زمان شيخ الإسلام هم الغلاة، والخوارج في زمان شيخ الإسلام هم أعلى ما وصلوا إليه من انحراف، والمرجئة في زمان شيخ الإسلام هم الجهمية، فشيخ الإسلام واجه الفرق في أشد ضلالها وانحرافها، الفلاسفة في زمن شيخ الإسلام صاروا ملاحدة، والتصوف في زمن شيخ الإسلام كان هو الدعوة إلى وحدة الوجود وإلى الاتحادية، لهذا شيخ الإسلام واجه الفرق الضالة في أشد درجات غلوها، واليوم لا ترى هذا الغلو عند الفرق أحيانا. ومع ذلك تعامل شيخ الإسلام معها بالرد بالعلم والعدل، وليس مجرد التصنيف أن يقول هذه ضالة وكافرة وزنديقة وملحدة، لا، وإذا وصف، وصف الأفعال والاعتقادات، وإذا تكلم في المنتسبين إلى هذه الفِرق فصّل تفصيلا دقيقا، فكان -رحمه الله- إذا تكلم في المقالات أصّل، وإذا تكلم في الأعيان والأشخاص فصّل، وفي المقالات تأصيل، وفي الأشخاص تفصيل، منهج محكم، ولهذا كان سفير الإسلام عند أهل الفرق والديانات، وهذا معناه أن شيخ الإسلام جمع بين لقبين في حقيقة الأمر، كان شيخ الإسلام في العلوم، وكان عالم الملة في الدعوة في البلاغ وفي التبليغ، كان ابن تيمية -رحمه الله- في العلوم شيخ الإسلام، وفي الدعوة والتبليغ كان عالم الملة وسفير، أهل الملة إذا أرادوا أن يجادلوا أهل الإسلام في زمانه، أو أن يستظهروا أمراً يتعلق بواقع الإسلام أو أن يفاتحوا قضية تتعلق بمصالح المسلمين العامة، هنا جاؤوا إليه، ما جاؤوا إلى غيره.

السياسية الشرعية

        عندما تكلم -رحمه الله- في السياسة الشرعية في كتابه: السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، جعل المنطلق في السياسية الشرعية تحميل المسؤولية للراعي والرعية، ولم يوجه النقد للحاكم وحده، وبيّن أن السياسة الشرعية منوطة بالمصلحة والقدرة، وذهب يعالج جميع القضايا والأمور الجزئية بهذا الاعتبار، تكلم في الانتساب إلى الدين وفي الأسماء والأحكام، حتى ألّف كتاب الإيمان، كتاب عظيم، وكان ينظر إلى الأسماء بمعانيها وآثارها، لا بمبناها وألفاظها، تكلم في الإصلاح فدندن كثيرا في أن الفساد الأكبر يُدفع بفساد أقل، وبيّن أن الرسل جاؤوا بتحصيل المصالح وتكميلها، أو بدرء المفاسد أو بتقليلها.

مناظراته العلمية

          وشارك -رحمه الله- في المناظرات العلمية، وكان إمامًا في الحجة يستحضر النصوص ويقرب المعنى، يزيل الشبهة، لا ينتصر لنفسه، إذا تكلم في الفقه صحح الأغلاط، وحذّر من التقليد، بل قدّم شيخ الإسلام للأمة في المجال الفقهي أمراً عجز عنه الكثير وهو إصلاح أحكام الطلاق، حتى اليوم غالب أو جميع محاكم الدول العربية والإسلامية تأخذ بفتواه في مسائل الطلاق، وكان تصحيحا وتيسيرا وتحقيقا في هذه المسألة وألّف فيها المصنفات.

نقل كلام شيخ الإسلام

         وقبل أن أختم كلامي لابد أن أذكّر بقضية مهمة وأختم بها، هذا المنهج العام الشمولي الدقيق وهو جزء يسير؛ إذ المقام يتسع كثير من البيان والبسط، هناك فرق بين أشخاص ثلاثة: شخص هو محب ومعظم لشيخ الإسلام، وهذا منه أمر ممدوح، وشخص ينقل الفوائد والنكت والمسائل والأقوال عن شيخ الإسلام، وهو في ذلك ممدوح، لكن الأهم هو أن تنقل كلام شيخ الإسلام بحسب أصوله وفهمه ومنهجه وقواعده. فإنك اليوم قد تجد مبتدعا يدعو إلى بدعة أو منحرفا يدعو إلى ضلالة قد يستدل بكلام شيخ الإسلام! وقد تجد خصمه يستدل أيضا بكلام شيخ الإسلام، لهذا نصيحتي لهذا الجيل قبل الاعتناء بالنقل عن شيخ الإسلام أن يستوعب منهج شيخ الإسلام في المسألة ورأيه ، فإن شيخ الإسلام يفصّل تفصيلاً عظيما وكثيرا، فأنت تلتقط وتأخذ منه ما يناسب رأيك ويناسب اعتقادك، وهذا توظيف خطير! لهذا ينبغي ألا يُحسب على رأي شيخ الإسلام ولا نعد هذا مذهبا له إلا بعد أن نحقق ونحرر ذلك من كلامه في غير موضع وبحسب أصوله ومنهجه، والأمة تحتاج إلى دراسة منهج شيخ الإسلام وإلى دراسة علومه، وإلى الوقوف على تأصيلاته وقواعده فإنها جامعة، شاملة، واعية، دقيقة، رائعة.  

إمام عادل وفقيه عالم

كان شيخ الإسلام -رحمه الله- إمامًا عادلا، وفقيها عالمًا في الرد على المخالفين، وكان في رده ينظر إلى أمور ثلاثة:
  • الأمر الأول: ينظر إلى رتبة الخلاف وإلى شدته ودرجته ومنشئه وآثاره وأسباب ظهوره، ينظر إلى المخالفة، إلى الخطأ في نفسه، إلى الانحراف في ذاته أولا.
  • الأمر الثاني: ثم ينظر في حال الداعين والمنتسبين إليه، ثم يتكلم في الأعذار للمخالفين أحياناً، إما أن يتكلم في العذر وإما أن يتكلم في العواقب، فإذا جاء إلى مخالفة ينظر إليها ويحكم عليها ويرد عليها بالحجج، ثم يتكلم بالعدل.
  • ثالثًا: كان -رحمه الله- إذا تكلم في المخالفة تكلم بعلم، وإذا تكلم في المخالف تكلم بعدل، وإذا تكلم في الآثار تكلم بصدق، ويخبر بصدق أن هذا معذور وهذا لا يعذر. ولهذا بعض المخالفات يجعلها من باب الاجتهاد، وأخرى يجعلها من باب الخطأ، وثالثة يجعلها من باب الانحراف، ثلاثية دقيقة، في الاجتهاد أثنى على المجتهدين، وفي الخطأ بيّن عذر المخالفين، وفي الضلال حذّر من أهل البدع والمُضلّين، هذه النظرة الشمولية في هذا الباب.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك