وعيـد اللـه وعقوباته لليهود في القرآن الكريم والسنة النبوية (2)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:
قد ذكرنا في الحلقات السابقة شيئا من صفات اليهود الوارد ذكرها في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وها نحن نتبع ذلك بالكلام على وعيد الله لهم، وعقوباته التي أنزلها بهم؛ بسبب عصيانهم لربهم تعالى، وكفرهم بنعمه، ومخالفتهم رسله، وبغيهم وعدوانهم، وللكافرين والفاسقين أمثالها، وما ربك بظلام للعبيد.
فمن ذلك:
وعيد الله تعالى لهم: الذي ذكره الله تعالى عنهم في سورة بني إسرائيل – الإسراء - من عقوبات، بسبب إفسادهم في الأرض، وقد وقع ذلك عليهم مرتين، كما قال تعالى {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلنّ علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} (الإسراء: 4 – 8).
وقد سبق الكلام عليها في ذكر صفة إفسادهم في الأرض.
قال السعدي: واختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلطين، إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار، إما من أهل العراق أو الجزيرة أو غيرها، سلطهم الله على بني إسرائيل لما كثرت فيهم المعاصي، وتركوا كثيرا من شريعتهم، وطغوا في الأرض.
قال تعالى لهم {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} أي: نفع ذلك عائد إليكم، في الدنيا والآخرة ( وإن أسأتم فلها ) أي: يعود الضرر عليكم، كما أراكم من تسليط الأعداء عليكم.
وهذا مستمر إلى يوم القيامة؛ لقوله تعالى {وإن عدتم عدنا} أي: إن عدتم إلى الإفساد، عدنا إلى عقوبتكم.
فعادوا إلى ذلك في عهد نبوة محمد [، فسلط الله عز وجل عليهم رسوله محمدا [، فانتقم الله منهم به، وهذا جزاء الدنيا، وأما جزاء الآخرة، فكما قال سبحانه: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} يصلونها ويلازمونها لا يخرجون منها أبدا.
وفي ضمن هذه الآيات تحذير لهذه الأمة، من الوقوع فيما وقعت فيه اليهود من المعاصي والذنوب، لئلا يصيبهم ما أصابهم من العقوبات، وتسليط الأعداء، فسنة الله تعالى في خلقه واحدة لا تتغير ولا تتبدل.
قال السعدي: ومن نظر إلى تسليط الكفرة والظلمة على المسلمين، عرف ذلك، من أجل ذنوبهم، عقوبة لهم، وأنهم إذا أقاموا كتاب الله، وسنة رسوله، مكّن لهم في الأرض، ونصرهم على أعدائهم اهـ.
وأما تسليط الرسول [، فإنه كان [ قد عاهدهم أول ما وصل المدينة، وأنهم أمة مع المسلمين، وللمسلمين دينهم ولليهود دينهم، وأن بينهم النصر والأسوة والبر دون الإثم، غير مظلومين، وأنهم على من حارب أهل هذه المعاهدة، أو داهم المدينة.
لكنهم رغم هذه المعاهدة التي فيها الرعاية لهم والمصافاة، وصون دمائهم وأموالهم، واستعمال الرفق والحلم معهم، انطلقوا بالبغي والمكر والفساد في أرض المدينة وغيرها، بل بين المسلمين أنفسهم، تارة يشككون في شخص النبي [ ونبوته وشرائع دينه ؟! وتارة يقولون إن المشركين أهدى وأفضل من المسلمين سبيلا؟! وتارة يفتحون صدورهم ودورهم للمشركين، ويدلونهم على عورات المؤمنين، وتارة يهيجونهم على حرب المسلمين القبائل والأحزاب ؟! وتارة يحاولون اغتيال النبي [ وقتله، وغير ذلك من أنواع الفساد والإفساد.
وكان أول من كشف عن غله وحقده على المسلمين، ونقض عهده منهم: بنو قينقاع الذين كانوا يقيمون داخل المدينة، وبيوتهم تلاصق بيوت المسلمين، فعندما حصلت غزوة بدر وانتصر فيها المسلمون، غصوا بذلك، وحقروا من شأن النصر للمسلمين، ويظهر ذلك من موقفهم عندما جمعهم في سوقهم بعد بدر، وقال لهم: "يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا"، فقالوا لرسول الله [ كما جاء في كتب السيرة لابن إسحاق (294) وابن هشام ( 2/47 ) وسنن أبي داود ( 3001) قالوا له: " لا يغرنك أنك قتلت نفرا في قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ! إنك لو قاتلتنا، لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا !! فأنزل الله تعالى {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} (آل عمران: 12 – 13). وانظر تفسير الطبري ( 5/ 239 – 240)
فلما تكرر أذاهم للمسلمين، حاصرهم رسول الله [ وغزاهم وهم في حصونهم خمس عشرة ليلة في شوال من السنة الثانية من الهجرة بعد بدر بستة أشهر، حتى اضطروا للتسليم ورضوا بما يصنعه رسول الله [ فيهم، ونزلوا على حكمه، وشفع فيهم عبدالله بن أبي ابن سلول وكانوا مواليه، فأمر بهم فخرجوا من المدينة، فرحلوا إلى أذرعات بالشام، وقد كان خيرا لهم لو بقوا بجوار رسول الله [ وفي عهده وأمانه، لكنهم تعجلوا الشر لأنفسهم.
ثم كانت " غزوة بني النضير " بعد غزوة " أحد "، وذلك بعد أن نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله [، إذ حاولوا قتله عليه الصلاة والسلام بأن يلقوا عليه رحى من فوق جدار لهم ؟! وانتدبوا لذلك رجلا منهم يقال له: عمرو بن جحاش لعنه الله، وأعلم الله تعالى رسوله الله [ بذلك، فرجع إلى المدينة وأخبرهم بما أعلمه الله من أمر اليهود وندب الناس إلى قتالهم، فخرج في ربيع الأول فحاصرهم ست ليال منه، ودس عبدالله ابن أُبي بن سلول وأصحابه من المنافقين إلى بني النضير: أنا معكم نقاتل معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فاغتروا بذلك، فتحصنوا في آطامهم فأمر النبي الله [ بقطع نخيلهم وإحراقها، كما في البخاري ( 4031 ) عن ابن عمر، وهي: البويرة.
حتى نزلوا على الجلاء، فسألوا رسول الله [ أن يجليهم ويحقن دماءهم، وأن لهم ما حملت إبلهم غير السلاح فأجابهم إلى ذلك، فخرجت طائفة منهم إلى خبير، وذهبت طائفة منهم إلى الشام.
وأنزل الله تعالى فيهم أول سورة الحشر، فقال تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير} (الحشر: 2 – 6).
فأخرج الله بني النضير بعد أن أعجبوا بحصونهم وغرتهم، وظنوا أنها ستمنعهم وتحميهم من رسول الله [ وأصحابه، ولا يقدر عليها أحد، فلم تغن عنهم شيئا، وقذف الله في قلوبهم الرعب والفزع، والخوف الشديد من جنده.
وقوله {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} أي: عادوهما وحاربوهما وعصوهما: {ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب} وقد أنزل بهم عقابه.
ثم كانت غزوة بني قريظة: لما خانوا الله ورسوله [، في وقت الشدة والكرب، واجتماع أحزاب الكفر على المؤمنين، وظاهروا المشركين في غزوة الخندق، قاصدين بذلك المشاركة في القضاء على النبي [ وأصحابه، وتسليمهم إلى من يقتلهم، ويستبيح نساءهم وذراريهم!
فعندما رجع النبي [ من الخندق بعد هزيمة المشركين التي ذكرها الله بقوله: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا} (الأحزاب: 25)، قال سبحانه بعدها {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا} (الأحزاب: 26 – 27).
جاءه جبريل عليه السلام فأمره بالخروج لقتال بني قريظة؛ كما في البخاري (4117).
فأمر الرسول [ أصحابه ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، ليعجلوا الخروج إليهم لحصارهم وعقوبتهم بسبب خيانتهم العظمى، فحاصرهم [ خمسا وعشرين ليلة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وكانوا مواليه في الجاهلية وظنوا أنه يرفق بهم، فبعث إليه رسول الله [ فأتي به وكان قد أصيب في أكحله، فلما دنا من المسجد قال [ للأنصار قوموا إلى سيدكم أو إلى خيركم، ثم قال له [: " هؤلاء نزلوا على حكمك"، فقال سعد رضي الله عنه: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم. فقال رسول الله [: " قضيت فيهم بحكم الله " أو قال: " بحكم الملك ". رواه البخاري (4121، 4122 ). وفي رواية "من فوق سبعة أرقعة ".
فأمر النبي [ أن يقتل من أنبت منهم – أي شعر العانة وهو علامة البلوغ – ويترك من لم يكن أنبت، فضربت أعناقهم في خنادق حفرت في سوق المدينة، وكانوا ما بين الستمائة والسبعمائة.
لاتوجد تعليقات