وعيـد اللـه وعقوباته لليهود في القرآن الكريم والسنة النبوية (5)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فقد ذكرنا في الحلقات السابقة شيئا من وعيد الله تعالى وعقوباته التي أنزلها باليهود، في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة؛ بسبب عصيانهم لربهم تعالى، وكفرهم بنعمه، ومخالفتهم رسله، وبغيهم وعدوانهم، وللكافرين والفاسقين أمثالها، وما ربك بظلام للعبيد.
وذكرنا في الحلقة السابقة عقوبة "اللعن" لليهود، وما ورد من الآيات فيها في القرآن العظيم.
ومن الآيات أيضا في هذه العقوبة: قوله تعالى في سورة النساء: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} (النساء: 46 ).
فقد بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنواعا من ضلالهم وعنادهم، وإعراضهم عن قبول الحق بصريح القول، إذ قالوا: سمعنا وعصينا؟! وهذا غاية الكفر والعناد لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
وكذلك خطابهم للرسول [ بخطاب قبيح لا أدب فيه، إذ قالوا له: {واسمع غير مسمع} اسمع منا غير مسمع ما تحب بل ما تكره؟!
وكذلك قولهم له: {وراعنا} وقصدهم بذلك الرعونة، ويموهون أن قصدهم: راعنا سمعك، يلوون ألسنتهم بذلك، قاصدين الطعن في دين الإسلام، والعيب لرسوله [؛ ولهذا قال تعالى: {ليا بألسنتهم وطعنا في الدين}.
فلهذه الذنوب العظيمة المكفرة، والكبائر الفظيعة المتتالية، لعنهم الله تعالى شأنه، {وما ربك بظلام للعبيد}.
أما ما ورد من ذكر هذه العقوبة لهم، في السنة النبوية المطهرة:
1 – فقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي [ قال في مرضه الذي مات فيه: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا " قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنه أخشى أن يتخذ مسجدا.
رواه البخاري في الجنائز (1330).
قال العلماء: مفاد الحديث: منع اتخاذ القبر مسجدا؛ لتوجه اللعن لفاعله، وهو لا يكون إلا لمن وقع في كبيرة من الكبائر الموجبة لغضب الله تعالى.
قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي [ فأغلقوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره [، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال؛ حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. انتهى.
وروى جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعت النبي [ قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا..." إلى قوله: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" رواه مسلم.
قال الخطابي: وإنكار النبي [ صنيعهم هذا مخرّج على وجهين:
أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما.
الثاني: أنهم يجوّزون الصلاة في مدافن الأنبياء، والتوجه إليها حالة الصلاة، نظرا منهم بذلك إلى عبادة الله، والمبالغة في تعظيم الأنبياء.
والأول: هو الشرك الجلي، والثاني: الخفي؛ فلذلك استحقوا اللعن. انتهى.
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن: فكيف يسوّغ بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور، ويبنى عليها، ويصلى عندها وإليها؟! هذا أعظم مشاقة ومحادّة لله تعالى ولرسوله [ لو كانوا يعقلون.
ومن غربة الإسلام، أن هذا الذي لعن رسول الله [ فاعليه، من اليهود والنصارى، وحذر أمته منه أن يفعلوه معه، أو مع غيره من الصالحين، قد فعله كثير ممن ينتسب لأمته[ من متأخريهم! واعتقدوا أن ذلك قربة من القربات! وحسنة من الحسنات! وهو من أعظم السيئات والمنكرات، ومن الغلو المفضي للشرك برب البريات !
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي [ قال: " الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام " رواه أحمد (3/83، 96) وأبو داود (492) وابن ماجة (745).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله [ يقول: " إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد " أخرجه أحمد (1 / 405) والطبراني (10413 ) وغيرهما.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي [ قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" أخرجه أحمد (2/ 246 ) وابن سعد في الطبقات (2/ 362 ) وأبو يعلى (6681 ) وغيرهم.
قال الإمام ابن القيم: وبالجملة، فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن رسول الله [ مقاصده، جزم جزما لا يحتمل النقيض، أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه – صيغة " لا تفعلوا " وصيغة " إني أنهاكم عن ذلك " – ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم من " لا إله إلا الله"؛ فإن هذا وأمثاله من النبي [ صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكابا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم لها أشد تعظيما، وأشد فيهم غلوا، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد!
ولعمر الله، هذا الباب دخل منه الشيطان على عُبّاد يغوث ويعوق ونسر، ودخل على عُبّاد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة.
فجمع المشركون بين الغلو فيهم، والطعن في طريقتهم، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وأنزلوهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها: من العبودية، وسلب خصائص الإلهية عنهم. انتهى _ فتح المجيد (ص 344-345).
وقال أيضا: يجب هدم القباب التي بنيت على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول[، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير الترميني وغيرهما.
وقال الشافعي رحمه الله: أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا؛ مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس.
ومراده بالكراهة: التحريم.
وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة.
وقال الأذرعي: وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية، وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه.
وقال القرطبي: في حديث جابر رضي الله عنه "نهى أن يُجصَّص القبر أو يبنى عليه" وبظاهر الحديث قال مالك، وكره البناء والجص على القبور، وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه.
وقال الزيلعي: في " شرح الكنز ": ويكره أن يبنى على القبر.
وذكر قاضي خان: أنه لا يجصص القبر، ولا يبني عليه؛ لما روي عن النبي [ أنه نهى عن التجصيص والبناء فوق القبر.
والمراد بالكراهة عند الحنفية كراهة التحريم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما بناء المساجد على القبور، فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه.
قال: ولا ريب في القطع بتحريمه. ثم ذكر الأحاديث في ذلك إلى أن قال: وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك وغيرهم، تتعين إزالتها بهدم أو غيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين. انتهى.
2– ومن أسباب لعنهم تحايلهم على المحرمات:
كما جاء في الحديث الصحيح: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بلغ عمر رضي الله عنه أن سمرة باع خمرا، فقال: قاتل الله سمرة ! ألم يعلم أن رسول الله [ قال: " لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها – أي أذابوها – فباعوها ".
وفي رواية: " وأكلوا أثمانها " متفق عليه.
3- وما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أن رسول الله [ قال: " قاتل الله اليهود، لما حرم الله عليهم شحومها، جملوها ثم باعوها فأكلوها " أخرجه البخاري (2236، 4633) ومسلم (1581).
وقد سبق الحديث عن هذه الخصلة الذميمة التي أوجبت لهم الطرد من رحمة الله تعالى.
هذا ما تيسر بيانه وإيضاحه في عقوبات هذه الملة المنحرفة، ونسأل الله تعالى أن يعصمنا من التشبه بهم وبأخلاقهم وصفاتهم، وأن يحفظنا وإخواننا المسلمين والمسلمات من كل شر وبلاء وعذاب وسخط وغضب، وأن يجعلنا هداة مهتدين، صالحين مصلحين، ويلهمنا التمسك بكتابه العظيم، وهدي نبيه الكريم، ونهج صحبه المهديين، إنه سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
لاتوجد تعليقات