شــــرح كتـــــــــاب “الاعتصـــــام بالكتــــاب والســــنة” مــــن صحيــــح الإمام البـــخاري (3)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الحديث الثالث:
7270 - قال: حدثنا موسى بن إسماعيل. قال: حدثنا وهيب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني إليه النبي [ وقال: "اللهم علمه الكتاب" (طرفه في: 75).
الشرح:
الحديث الثالث رواه البخاري رحمه الله من طريق شيخه موسى بن إسماعيل التبوذكي الثقة الثبت، قال: حدثنا وهيب وهو ابن الورد القرشي، قال عن خالد وهو ابن مهران الحذاء، عن عكرمة مولى ابن عباس، ويكنى بأبي عبد الله وأصله من البربر من أهل المغرب، وكان ممن حفظ عن ابن عباس علما جما، ورجع إليه أهل العلم في معرفة الرواية عن ترجمان القرآن ابن عباس.
قال: عن ابن عباس قال: ضمني إليه النبي[ وقال: "اللهم علمه الكتاب".
سبب هذا الحديث: أن الرسول [ دخل الخلاء يوما، قال ابن عباس: فوضعت له وَضوءا، والوَضوء بفتح الواو: ماء الوضوء الذي يتطهر به، فلما خرج قال: "من وضع هذا؟" فأخبر [ أن الذي وضعه ابن عباس؛ فضمه[ وقال: "اللهم علمه الكتاب" وفي رواية "اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين".
هذا الحديث فيه دعاء النبي[ لابن عمه ابن عباس رضي الله عنه، دعا له بشيء عظيم، لم يدع له بالدنيا، وإنما دعا له بما تحصل له به النجاة في الدنيا والآخرة، ألا وهو تعلم الكتاب، والكتاب كما قلنا في عرف الشرع يعني: القرآن الكريم، فقال: "اللهم علمه الكتاب", ومعناه: فقّهه في كتاب الله وفهّمه، وألهمه حفظه، وفقهه في الدين والشريعة.
وهي دعوة عظيمة من رسول الله [، وقد تحققت هذه الدعوة له، فمن علم حال ابن عباس رضي الله عنهما في التفسير، ومعرفة الشريعة وأحكام الدين علم ذلك؛ فقد فاق ابن عباس على صغر سنه كثيرا من الصحابة في العلم ومعرفة كتاب الله، حتى إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يدخله مع الصحابة الكبار من أهل الشورى من البدريين وغيرهم؛ لما يعلم من علمه وفقهه، ولما احتجوا عليه: كيف تدخل معنا ابن عباس وتجلسه في مجلسنا، ومجلس مشاورتنا، وعندنا أبناء مثله؟! فسكت عمر ودعاه يوما، يقول ابن عباس: ما دعاني إلا ليعرفوا منزلتي، فسألهم رضي الله عنه: ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (النصر1-3)؟
فقال بعضهم: أمره الله سبحانه وتعالى إذا جاءه النصر والفتح أن يستغفر الله عز وجل ويتوب إليه، وقال بعضهم: الله أعلم بمرادها، ثم التفت إلى ابن عباس وقال: ما تقول فيها يابن عباس ؟ قال: هو أجل رسول الله [ أعلمه إياه. فقال عمر: والله لا أعلم منها إلا ما قلت.
فعلموا منزلته من ذلك اليوم وأنه غلام معلَّم مُلهم، وأن الله تعالى قد فهّمه الكتاب.
وقد سئل ابن عباس: بم أوتيت هذا العلم الجم؟ فقال: بقلب عقول، ولسان سؤول.
فكان رضي الله عنه قد فرّغ قلبه لطلب العلم، وهذا أمر ضروري لطالب العلم؛ لأن الإنسان صاحب القلب المشغول لا يمكن أن يطلب العلم كما ينبغي؛ فلا بد من تفريغ القلب من الشواغل والصوارف، وجعل العلم هو المقصد الأول، ولا شك أن الإنسان تمر به ظروف وأحوال أحيانا تلهيه أو تصده عن طلب العلم، ولكن متى وجد فرصة، فرغ قلبه لطلب العلم، وانكّب على القراءة وعلى السماع بقدر استطاعته.
وكذلك السؤال عما ينزل به مما لا يعرفه، أو لا يعرف حكمه، فهذا أمر ضروري ومطلوب، والحياء المانع من السؤال يفوّت على الإنسان علما كثيرا، والكبر أيضا مانع من السؤال، وهو كذلك يفوّت على الإنسان علما كثيرا.
الحديث الرابع:
7271 – قال: حدثنا عبد الله بن صباح قال: حدثنا معتمر قال: سمعت عوفا: أن أبا المنهال حدثه: أنه سمع أبا برزة قال: "إن الله يغنيكم - أو: نعشكم - بالإسلام، وبمحمد[". (طرفه في: 7112).
الشرح:
يقول البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن صباح وهو الهاشمي العطار، حدثنا معتمر وهو ابن سليمان البصري أبو محمد، قال: سمعت عوفا وهو ابن مالك بن نضلة الجشمي، ثقة، مشهور بأبي الأحوص، أن أبا المنهال حدثه وهو سيار بن سلامة الرياحي، ثقة، أنه سمع أبا برزة وهو الأسلمي صحابي من صحابة رسول الله[ واسمه نضلة بن عبيد، قال: "إن الله يغنيكم بالإسلام وبمحمد["، وفي لفظ: "إن الله نعشكم بالإسلام وبمحمد[". قال أبو عبد الله - وهو البخاري نفسه؛ فإذا وجدت في صحيح البخاري: "قال أبو عبد الله"، فاعلم أنه المؤلف والمصنف للصحيح وهو الإمام البخاري-: ووقع هاهنا: "يغنيكم" وإنما هو نعشكم، قال: ينظر في أصل كتاب الاعتصام. كأن البخاري رحمه الله كان له كتاب كبير اسمه "الاعتصام بالكتاب والسنة" انتقى منه ما كتبه في الصحيح، مثل ما فعله في "الأدب المفرد"، فـ"الأدب المفرد" كتاب واسع انتقى منه ما وضعه في كتاب الأدب من صحيحه؛ ولذلك لما حصل الشك في هذه اللفظة قال البخاري: يراجع الأصل. فربما كان في سفر ليس معه أصوله، فقال: يراجع الأصل؛ حتى يعلم الكلمة الصحيحة فيصلح منه.
أما الحديث: فأبو برزة الأسلمي رضي الله عنه قال هذه الكلمة، في وقت كان فيه اضطراب في الأمة الإسلامية، وذلك وقت أن بويع لابن الزبير رضي الله عنه بالخلافة في الحجاز، وحصلت فتنة القراء بالبصرة، وحصل ما حصل بين علي رضي الله عنه وأهل الشام، فجاءه بعض الناس يسألونه ويأخذون رأيه، فقالوا له: ألا ترى ما وقع فيه الناس! فقال رضي الله عنه وأرضاه - وهذه الرواية ذكرها البخاري في الفتن-: "إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش" يعني: قد أبغضت ما وقعوا فيه من الاختلاف وترك الاتفاق؛ فابن الزبير اختلف مع أهل الشام، وأهل الشام اختلفوا مع أهل الحجاز، وهذا خلاف ما أمر الله به؛ وذلك لأن الله سبحانه أمرنا بالتقوى ثم دلنا على الطريق فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، فإذا أردنا طريق التقوى فعلينا بالاعتصام بالقرآن والسنة، وترك التفرق؛ لأن ترك الاعتصام، والتفرق والاختلاف، سبب لضياع التقوى! فسبحان الله!
ثم قال: "إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة" أي: هذا ما كان عليه العرب قبل الإسلام، كانوا على قلة وذلة وضلالة وعماية! كانوا مستضعفين لا رأي لهم، ولا وزن لهم بين الأمم.
ثم قال: "وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد[، حتى بلغ بكم ما ترون" فقال في هذه الرواية: وإن الله أنقذكم بالإسلام.
وفي رواية كتاب الاعتصام هنا: "إن الله نعشكم أو يغنيكم"، وهي كلها متقاربة، ومفادها: أن الله سبحانه وتعالى أنقذ العرب بالإسلام وبرسالة محمد [، فأخرجهم به من الضلالة إلى الهداية، ومن الشر إلى الخير، ومن القلة والذلة، إلى الكثرة والعزة.
ثم قال رضي الله عنه: "وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم.." إلخ كلامه رحمه الله، فبين أن الدنيا أفسدت بين الناس، وأوقعت أحيانا الاختلاف والتفرق، والتحاسد والتباغض والتدابر، وهي أمراض حذر منها المصطفى[.
فالشاهد في هذا الحديث: أن أبا برزة ذكّر الناس بأن الله تبارك وتعالى قد أنقذهم من الذلة والقلة والضلالة بالإسلام وبالقرآن وبمحمد[؛ فلا طريق لنا نحن أيضا إلى الانتعاش مرة أخرى، ولا طريق لنا إلى القوة والرفعة والمجد، إلا بما ذكره الله تعالى مما سبق ذكره في كتابه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)؛ فعلينا التمسك بالكتاب والتمسك بالسنة وبفهم الصحابة لهما, فهذا أمر مهم وضروري، وسيتكرر التنبيه عليه.
لاتوجد تعليقات