شــــرح كتـــــــــاب “الاعتصـــــام بالكتــــاب والســــنة” مــــن صحيــــح الإمام البـــخاري (5)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
• الحديث الثاني من الباب الأول:
7274- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثنا الليث، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي [ قال: " ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآياتِ مَا مِثلُهُ أومن، أو آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً أوحاهُ الله إلي، فأرجو أني أكثرهُم تابعا يومَ القيامةِ ".
(طرفه في: 4981).
الشرح:
بدأ الحديث الثاني في هذا الباب وهو أيضا من مسند أبي هريرة بقول البخاري - رحمه الله-: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثنا الليث، وهو ابن سعد الفهمي المصري: قال: عن سعيد، وهو ابن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، واسمه كيسان المدني ثقة ثبت، وهو من المكثرين في الرواية عن أبي هريرة، كما مر معنا.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي[ قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله أومن أو آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة".
قوله: "ما من الأنبياء نبي" هذه صيغة تفيد العموم، أي: كل الأنبياء قد أعطاهم الله تعالى من الآيات، وهي المعجزات ما يؤمن عليها البشر، فكل نبي آتاه الله آيات، والآية هي: اسم للأمر المعجز الذي يتحدى به النبي قومه ولا يستطيعون معارضته، وكثير من العلماء يسميها المعجزات، والأصوب تسميتها بالآيات، أولا: لأن الله تعالى سماها كذلك في كتابه؛ فهي لفظ القرآن كما في قوله: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً} (هود: 64) وغيرها.
ثانيا: أن الأمر الجميل، العجيب، الغريب، المعجز، يسمى في اللغة آية، وهذا أقرب لوصف معجزات الأنبياء.
والأنبياء تعددت آياتهم بحسب ظروفهم وأزمانهم وأقوامهم، فتحدى الله تعالى كل قوم من جنس ما يحسنون ويتقنون، فالسحر انتشر في عهد موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكانت آية موسى من جنس ما يحسنه قومه، وإن كانت هي ليست سحرا، وعيسى ابن مريم انتشر في عهده علم الطب والتداوي، فتحداهم الله عز وجل بأشياء عجز الطب عن مداواتها، كالبرص والعمى بل الكَمَه، والأكمه هو من يولد أعمى، ثم زاد في التحدي بأن أحيا لهم الموتى، وهذا لا يمكن أن يفعله الأطباء أبدا مهما أوتوا من علم وقوة، وفي زمن النبي [ برع العرب في الفصاحة والبلاغة والبيان والشعر والنثر والخطابة، فكانت آية النبي [ من جنس ما يتعاطاه قومه من فنون اللغة والشعر والأدب، وإن كان القرآن ليس شعرا ولا نثرا.
قوله: "ما مثله أومن"، وهي الراوية الأولى، من الأمن، يعني ما يأمن به الإنسان، فإذا رأى الناس آية النبي من الأنبياء، حصل لهم نوع من الأمان أنه صادق فيما يقول.
والرواية الثانية: " ما مثله آمن: من الإيمان، يعني ما يحصل به الإيمان.
قوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ"، الحصر هاهنا يعني: أن القرآن الكريم هو أعظم معجزاتي أو أعظم آياتي، فكان أعظم ما أوتيه عليه الصلاة والسلام هو الوحي والقرآن، ولم تكن معجزته الوحيدة القرآن، كما يظن بعض الناس، بل له معجزات باهرة عظيمة كثيرة غير القرآن، كانشقاق القمر المذكور في القرآن، وانفجار الماء من بين أصابعه الشريفة [، وتكثير الطعام له ولأصحابه، وتسبيحه وهو يؤكل، وكلامه لبعض العجماوات وفهمه عنها، وانقياد الشجر له، وغير ذلك كثير، لكن القرآن هو أعظم المعجزات أو الآيات على الإطلاق، وأفيدها وأدومها وأشملها؛ لأن كل آية كانت تنتهي بموت النبي، لكن آية نبينا محمد [ باقية دائمة إلى قيام الساعة، في حجيتها على الخلق، وسعة علومها، ودوام الانتفاع بها إلى أن يشاء الله تعالى رفعها من الأرض.
فالقرآن إذن أنفع وأعظم الآيات؛ لدوامه وبقائه وكثرة الانتفاع به على مر الدهور، وتعاقب الأيام والشهور، وهو معجز في نفسه، والإعجاز القرآني له وجوه كثيرة منها: أنه موجز في لفظه، وقد قال بعض الشراح: إن البخاري - رحمه الله - لما أورد الحديث الأول "بعثت بجوامع الكلم"، ثم أورد الحديث الثاني الذي يذكر القرآن، دل على أن المراد عنده بجوامع الكلم هو القرآن، وهذا ليس بلازم كما قال الحافظ ابن حجر، لكن لا شك في دخول القرآن في جوامع الكلم؛ لأن القرآن وجيز بليغ، وهناك أمثلة ذكرها أهل العلم لآيات وجيزة جامعة المعنى، مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179)، ومثل قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) ومثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 52).
وأما جوامع الكلم في حديثه [، فأمثلتها كثيرة: منها قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" فهذا حديث عظيم موجز، لكنه واسع المعنى، ومثل قوله[: "مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، ومثل حديث: "مِنْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وحديث النعمان بن بشير "الحلال بيَّن والحرام بيَّن، وبينهما أمور مشتبهات"، هذه أربعة أحاديث يقول الإمام أحمد عنها: عليها مدار الإسلام، وهي جوامع من جوامع الكلم النبوي، والتي تتضمن قواعد شرعية عامة.
ومثلها حديث: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهو حديث عظيم، وكلمات موجزة، لكنه قاعدة عظيمة يمكنك أن تعرف بها أمورا كثيرة من أمور المعاملات بين الناس، ومثل قوله[ "كل مسكر خمر" ثلاث كلمات، ولكن بهذا الكلم الموجز أمكننا أن نعرف ماهية الخمر إلى قيام الساعة، فلم يقل[ الخمر من العنب، أو من الزبيب، أو من البر، أو من الذرة، وهكذا، بل قال: كل مسكر خمر، يعني كل شراب يؤدي إلى الإسكار فهو خمر. وفي الحديث الآخر: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، ومثله حديث: "قل آمنت بالله ثم استقم" شرحه الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في وصية سماها الوصية الصغرى، وهو حديث جامع عظيم.
ولو أردنا أن نتتبع هذا الباب، لوجدنا أحاديث كثيرة، فالألفاظ النبوية تكون موجزة الألفاظ واسعة المعنى، وهو قد بعث بذلك، وهذا من معجزاته وآياته.
ولهذا نقول: إن المسلم المستمسك بسنته القولية سالم من كل شر، غانم لكل خير؛ لأن كلامه [ جامع مانع، ومن ذلك: الدعاء؛ فإن النبي [ " كان يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك " كما روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهو في جامع الترمذي، أي ما كان[ يحب أن يوسع الكلام والألفاظ، وإنما كان يقتصر على الأدعية الجامعة النافعة.
وكثيرا ما نسأل عن كتب أو كتيبات ألَّفت في الدعاء، وهي قد تكون جميلة المعانى في الظاهر، ويغتر بها كثير من عامة المسلمين، ولكن إذا تفكر فيها العالم بالسنة، يرى فيها أشياء مخالفة للشرع؛ فبعضها يدخل في السجع المتكلف المذموم، والتكرار الدال على ضعف البلاغة والبيان، وبعضها يدخل في الاعتداء في الدعاء، فالأسلم الاقتصار على جوامع الدعاء النبوي.
ولهذا نحن نوصي دائما بأن الإنسان إذا أراد أن ينشر كتابا في الدعاء، أن يختار كتب الأدعية النبوية الثابتة؛ ففيها غنية وكفاية عن كل دعاء وثناء، ولا بأس بعد ذلك أن الإنسان يدعو لنفسه في صلاته وغيرها بحاجته مما يشاء ويحتاج إليه، فهذا أمر لا بأس به، ولكننا نعتقد أن الأدعية النبوية كافية، وتسد حاجات الإنسان إذا حفظ منها الثابت الصحيح، مما ورد عنه[ وجمعه العلماء قديما وحديثا، ككتاب «الدعوات من صحيح الإمام البخاري»، و«من جامع الترمذي»، وككتاب "صحيح الكلم الطيب" لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق العلامة الألباني، و"الوابل الصيب" لتلميذه ابن القيم - رحمهم الله تعالى - وغيرها.
لاتوجد تعليقات